الشرق الأوسط بين ترمب وهاريس
تظل الولايات المتحدة الأميركية، الفاعل الخارجي الأكثر نفوذا في الشرق الأوسط، بفضل مصالحها وعلاقاتها الدائمة مع بعض دول المنطقة. وعلى الرغم من الدعوات المتكررة التي تطلقها الإدارة الأميركية من أجل "التحول إلى آسيا" و"الخروج من الحروب التي لا تنتهي"، فإن أي إدارة أميركية جديدة ستحافظ على حضور سياسي واقتصادي وعسكري بارز في المنطقة.
ستحدد الانتخابات الرئاسية المقبلة، التي يتنافس فيها الرئيس السابق دونالد ترمب ونائبة الرئيس كامالا هاريس، اتجاه السياسة الخارجية الأميركية، بما في ذلك استراتيجيتها في الشرق الأوسط للفترة 2025-2028.
قبل بضعة أسابيع، بدا وكأن ترمب قد ضمن الفوز في الانتخابات، ولكن هذا الاحتمال لم يعد مرجحا بعد انسحاب بايدن، حيث لحقت به هاريس في استطلاعات الرأي. ويبدو أن فرصهما في الفوز في نوفمبر/تشرين الثاني متساوية حاليا.
ترمب بين 2017 و2020
لا تنقص ترمب الشهرة، فهو معروف في نواح كثيرة، وخلال فترة ولايته السابقة من 2017 إلى 2020، كانت أفعاله تحدد نهجه العام: فقد دعم إسرائيل بقوة، وخفض مستوى العلاقات مع الفلسطينيين، وسهل التطبيع بين إسرائيل وأربع دول عربية. وفيما يتعلق بإيران، انسحب من خطة العمل الشاملة المشتركة وفرض عقوبات صارمة، بينما أعطى الأولوية للعلاقات مع دول الخليج العربي، وخاصة المملكة العربية السعودية، التي كانت أول بلد زاره بعد توليه الرئاسة.
وفيما يتعلق بالوجود العسكري الأميركي، فقد أبرم صفقة مع طالبان لسحب القوات الأميركية من أفغانستان وسعى إلى سحب القوات من سوريا، مع الحفاظ على وجود عام والرد بقوة على العدوان الإيراني ضد الأميركيين، ولكنه لم يأمر برد عسكري عندما تعرضت منشآت النفط في بقيق بالمملكة العربية السعودية للضرب، مما يؤكد نهجه المعروف بـ"أميركا أولا" في تعامله مع الجوانب الأمنية.
ترمب في ولاية ثانية
ولئن أتيحت لترمب فترة ولاية ثانية، فالأغلب أن يحافظ على اتجاهه الراسخ. والمرجح أن يواصل دعمه القوي لإسرائيل، على الرغم من أنه حث نتنياهو على إنهاء الحرب الجارية قبل أن يتولى منصبه. إن تأييد ترمب لإسرائيل ثابت لا يتزعزع، ولكنه حريص أيضا على تجنب صراعات الشرق الأوسط التي قد تجد الولايات المتحدة نفسها متورطة فيها. وعلى الرغم من العلاقات المتوترة مع نتنياهو، سيستمر ترمب في دعم التيار اليميني في إسرائيل وتقويته. ولقد نأى ترمب بنفسه بالفعل عن الالتزام الواضح بحل الدولتين ومن المرجح أن تتماشى سياسته مع ما تفضله إسرائيل لمستقبل غزة والضفة الغربية بعد الحرب. وسيعمل ترمب على زيادة عدد الدول التي ستعقد اتفاقات سلام (اتفاقات أبراهام) والعمل على إشراك المملكة العربية السعودية، وفي هذا الصدد، يفضل ترمب إبرام صفقة دفاعية ونووية مربحة للجانبين مع المملكة العربية السعودية، لكنه سيواجه صعوبة في تمريرها كمعاهدة بأغلبية الثلثين في مجلس الشيوخ، حيث لن يصوت معظم الديمقراطيين معه. أما فيما يخص إيران، فبصفته صانع صفقات، قد يكون منفتحا على التفاوض على صفقة جديدة مع إيران.
وعلى الجانب العسكري، من المرجح أن يشرف ترمب على الانسحابات الأميركية من سوريا والعراق، مع الحفاظ على الوجود الأميركي في أماكن أخرى، والعمل مع إسرائيل والمملكة العربية السعودية والحلفاء الإقليميين لتعزيز الدفاعات المضادة للصواريخ والطائرات دون طيار وتعزيز تحالف لموازنة إيران.
أما فيما يتعلق بالسعودية ودول الخليج العربي، فسيواصل ترمب إعطاء الأولوية لعلاقاته مع هذه الدول بسبب الفوائد الاقتصادية للولايات المتحدة والحاجة الاستراتيجية إليها في مواجهة الصين. وعلى الصعيد العسكري، من المرجح أن يشرف على الانسحابات الأميركية من سوريا والعراق مع الحفاظ على وجود في أماكن أخرى والعمل مع إسرائيل والحلفاء الإقليميين لتعزيز الدفاعات المضادة للصواريخ والطائرات دون طيار، وتشكيل تحالف لمواجهة إيران.
مواقف هاريس
أما كامالا هاريس، فتظل التنبؤات بشأن سياساتها أكثر صعوبة، خاصة في الشؤون الخارجية. ذلك أنها في السنوات الأربع التي قضتها في البيت الأبيض كانت تتبع بشكل عام توجيهات بايدن، الذي يتمتع بخبرة واسعة في السياسة الخارجية. وقبل ذلك، كانت فترة ولايتها في مجلس الشيوخ قصيرة، قضتها بعد عقدين من الزمن كمدع عام في كاليفورنيا. وعلى الرغم من خلفيتها العائلية الدولية، فإن خبرتها المباشرة في السياسة الخارجية محدودة. وقد يُنظر إلى رئاسة هاريس على أنها استمرار لإدارة بايدن أو حتى كولاية رابعة لأوباما، بمعنى أن المستشارين والمسؤولين عن السياسة الخارجية سيكونون على الأرجح من المجموعة الديمقراطية المعهودة التي عملت مع بايدن وأوباما. ولا يزال من غير المؤكد كيف ستتصرف وتتفاعل كرئيسة، وسوف يكون ذلك اختباراً مهماً لشخصيتها، قد لا تستبين هي نفسها حدوده.
والمرجح أن سياسة هاريس ستتوافق، في البداية، مع الدعم الحزبي العام لإسرائيل. ولكن لنتذكر أنها أعربت أيضا عن تعاطفها مع الفلسطينيين، ما قد يعكس التحول الكبير بين الناخبين الديمقراطيين الأصغر سنا. ولعلها ستستقي بعض مواقفها بشكل أوثق من موقف جيمي كارتر بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
ولعل من بين الأسباب التي تدفع نتنياهو لتسوية عدد من الحسابات مع أعدائه في الشرق الأوسط معرفته أنه لن يكون له صديق في البيت الأبيض إذا فازت هاريس، فهذه الأخيرة ستعيد مبدأ حل الدولتين إلى الطاولة. ولكن دون استعداد إسرائيلي للتحرك في هذا الاتجاه، فمن المشكوك فيه أن تتمكن إدارة هاريس من إحراز تقدم يذكر في هذا المضمار. وستواصل محاولات إدارة بايدن لإبرام صفقة ثلاثية بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل. ومن المرجح أن تشمل الصفقة اتفاقات دفاعية ونووية مع المملكة العربية السعودية، ولكنها ستستمر في مواجهة عقبة إسرائيلية ما لم تتغير القيادة والمواقف الإسرائيلية بشكل كبير في العام أو العامين المقبلين. وإذا نجحت هاريس في تأمين صفقة ثلاثية، فسيكون لديها فرصة لتمريرها كمعاهدة في مجلس الشيوخ من خلال الحصول على دعم معظم الديمقراطيين لها، على أمل تأمين جزء على الأقل من الجمهوريين. وفيما يتعلق بالمملكة العربية السعودية ودول الخليج، فالأغلب أن لا تحظى هاريس بالعلاقة الدافئة التي يمكن أن يتمتع بها ترمب ولا بذكائه التجاري، ولكنها، كرئيسة، سوف تقدر الأهمية العميقة للمصالح والعلاقات الأميركية في الخليج في مجالات الأمن والطاقة والاستثمار والتكنولوجيا ومواجهة الصين.
أما في العلاقة مع إيران، فستواصل هاريس سياسة بايدن في محاولة إحياء صفقة مع طهران مع الحفاظ على عقوبات معتدلة، وستترك الخيار لطهران لتقرير ما إذا كانت تريد التوصل إلى اتفاق مع إدارة هاريس أم لا. وسوف يتعين عليها أن تتعلم بسرعة كيفية التعامل مع القرارات العسكرية، ولا بأس من الاعتماد في البداية على نصيحة جنرالاتها.
وفي الختام، لا ريب في أن شاغل البيت الأبيض في عام 2025 سيجلب معه أسلوبا مختلفا وبعض التغييرات في السياسات. ومع ذلك، من الأهمية بمكان أن ندرك أن الكثير من المصالح والسياسات الأميركية مستمرة وستظل ثابتة تحت أي إدارة. بالإضافة إلى ذلك، في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، ستكون معظم التطورات المهمة في الشرق الأوسط مدفوعة بقوى إقليمية مثل المملكة العربية السعودية وإسرائيل وإيران وتركيا. وفيما سيظل اللاعبون الدوليون الكبار مثل الولايات المتحدة يمارسون نفوذا كبيرا، فمن غير المرجح أن يفرضوا المسارات المتنوعة للحرب والسلام والازدهار الاقتصادي في المنطقة.