من الانتصار للانتظار...!
أكرم عطالله
مازالت المنطقة تقف على أطراف أصابعها تتأهب للحريق. كيف تمكن بنيامين نتنياهو من قلب الطاولة ودفعها لتلك اللحظة؟ تلك تتعلق بشخصيته، فهو ليس سهلاً على الإطلاق وربما أكثر شخصية مهمة في تاريخ إسرائيل منذ إقامتها.
فقد تمكن نتنياهو من خداع الجميع، ليس في إسرائيل فحسب، بل وفي العالم أيضاً، فلولا استدراك الحزب الديمقراطي بكامالا هاريس كاد يتمكن من التحكم بالنتائج الأميركية بعد أن أهان الرئيس بايدن بما يكفي تمهيداً لتحليل دمه على مذبح الانتخابات.
يقول الأميركيون إن نتنياهو لم يبلغهم عن نيته اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس في طهران، وإذا كان الأمر كذلك يكون قد ضرب كل العصافير التي يريدها دفعة واحدة، وأبرزها وضع إيران أمام خيار واحد ووحيد وهو الرد. وفي ظل عدم اعتراف إسرائيل بالاغتيال يصبح الرد الإيراني خارجاً عن القانون الدولي، وهو يدرك أن لا خيار للولايات المتحدة سوى ضرب إيران وهو حلم حياته ومشروع عمره. ففي تسجيل مع أحد الصحافيين الذي يسأله عن العدو الأول لإسرائيل يجيب نتنياهو: إيران، ثم يقترح على الصحافي أن يعدد له ثلاثة أعداء بالترتيب ليجيب: إيران ثم إيران ثم إيران.
إيران، ولأن هناك مناخات جديدة نشأت في الإقليم لا خيار أمامها إلا الرد، ففي عدم الرد خسارة لا تقل فداحةً عن الرد، لأنها ستغامر بالمكانة الإقليمية التي نشأت بعد السابع من أكتوبر وظهرت كدولة قائد قادرة على التحدي وتحريك العواصم، وهكذا وقع الأميركيون والإيرانيون في شرك محكم لا يجيد صناعته إلا شخص بالغ الدهاء.
الرد الإيراني مكلف وعدم الرد أكثر كلفة، والدفاع الأميركي عن إسرائيل يعني أنه تمكن من جر الولايات المتحدة من أنفها لما كان يخطط له منذ عقود ولم تتم الاستجابة له. وعدم دفاع الولايات المتحدة لا يمكن أن يكون، أي أنه وضع جميع الأطراف في مأزق، فقد توفرت له اللحظة التي تمكّن من التقاطها بجدارة وبدهاء غير آبه بالحريق .
اغتيال فؤاد شكر القيادي في حزب الله في بيروت كان رداً على ما قيل أنه صاروخ سقط على مجدل شمس أحدث هزة في جدار القوة الإسرائيلي، فكان الأمر ما يشبه رد الفعل. لكن اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس كان فعلاً منظماً ومخططاً، لم تكن أولوية نتنياهو حرباً مع حزب الله، بل لديه رؤية أكثر استراتيجية بالقضاء على الرأس ثم الانتقال للأطراف أو ترك الأطراف تضعف لوحدها. من هنا لم يكن يكتمل المخطط بالاغتيال في بيروت دون طهران.
بالاغتيالات وضعت إسرائيل الجميع في مأزق. الولايات المتحدة لا تستطيع ترك إسرائيل ولا الانجرار لمغامراتها رغماً عنها، وايران إن ردت بما يتناسب مع الاغتيال أو لم ترد، كلا الخيارين لم تكن تفضلهما طهران. فضرب إسرائيل بقوة يفتح حرباً يعني ضرب مصافي النفط ومراكز حيوية واقتصاد البلاد، وعدم الرد يعني المساس بروح البلاد. هنا الحسابات المعقدة التي أخذت كل هذا الوقت الذي يجعل إيران تحسب لضربة لا تؤدي إلى حرب كبرى تخسر فيها ما لا تريد خسارته.
حزب الله لم يكن يريد رفع النار أكثر من جبهة مساندة لا تتحمل إسرائيل قوة ضغطها لتضطر لوقف الحرب على غزة. لكن تلك الجبهة تسير على خيط رفيع لا يكسر قواعد الاشتباك ولا يرفع وتيرة الصدام نحو حرب مدمرة. صحيح أن إسرائيل هذه المرة في حال اندلعت الحرب ستتلقى ضربات موجعة، فالحزب تطور كثيراً قياسا بحرب 2006 وتجربته في سورية أكسبته خبرة كبيرة، ووجوده إلى جانب القوات الروسية هناك وحصوله على التكنولوجيا جعلته أكثر ثقة في معاركه، لكنه يدرك أن الإسرائيلي يملك من القوة الساحقة ما يمكن أن يتسبب بدمار هائل في لبنان وهذا ما لا يريده .
وحدهم الفلسطينيون يتطلعون لحرب إقليمية تتلقى فيها إسرائيل ضربات تشفي غليلهم، ولكن هذه الحرب الكبرى هي ما سيضمن وقف إطلاق النار في غزة بالحلول الكلية، بعد أن عجز الجميع من أصدقاء وغير أصدقاء عن وقف هذه الإبادة، وترك العالم المسلمين والعرب أمام الأنياب الإسرائيلية ووقفوا متفرجين على أكثر حروب التاريخ قذارة، قرأنا عن كل حروب التاريخ، لكن ما تفعله إسرائيل لم يجرؤ على فعله أكثر جيوش التاريخ وحشية .
تأكيدات إيران والمناخات القائمة تشي بما لا يقبل الشك بالرد، وإن كان حزب الله في هذه المعادلات يملك مساحة المناورة أكثر من إيران للكثير من الأسباب؛ ليس فقط لأنه يملك مشروعية الرد بالاعتراف الإسرائيلي بالاغتيال، لكن الميزة الأبرز هي ميزة الجغرافيا وشراكة الحدود التي تسمح له بخوض حرب مستمرة يصعب خلالها اعتراض صواريخه ومسيراته إذا ما انطلقت بكثافة، وليس مثل إيران التي تعبر صواريخها ومسيراتها أجواء دول تنصب الولايات المتحدة وتلك الدول صواريخها الاعتراضية فيها، وقدرة الولايات المتحدة على التدخل على حدود الشمال أقل، وعلى الأغلب أن تكون الحرب مع لبنان كما صرح الأمين العام لحزب الله في خطابه الأول بالانتقال من جبهة المساندة إلى جبهة الحرب، وتكون الجبهة الرئيسية فيما الجبهات الأخرى جبهات مساندة، إلا إذا فاجأنا صانع السجاد بما هو خارج التوقعات كما فعل نتنياهو، وهذا ممكن، فكل ما يصدر الآن من قبل الأطراف هو عملية تمويه وخداع هي الأكبر في مرحلة الانتظار القائمة ...!