التحصين الذاتي ...
ابراهيم ابو حويله ...
ما زالت تلك القصة لذلك الحجر الذي يدعم السد كاملا ولكنه لا يشعر بقيمة لوجوده ، فهو حجر من بين هذه الأحجار تقوم جميعها وعددها ملايين ،و تعمل معا بوحدة واحدة تدعم وجود هذا السد ، وتحجز تلك الملايين من الأمتار من المياه خلفه ، ما تزال تلك القصة عالقة وحاضرة في ذهني .
شكرا ايليا رغم انك لا تدري .
ولكن الحقيقة لست وحدك من لا يدري هل انت من البحر أم من النهر أم أنت أبن الجبل ، أم ضائع في صحراء حياته وما زال يبحث عن أمل ، نعم يا صديقي كثيرون منّا ضائعون مثلك تماما ، هم يظنون أنهم أن أطلقوا سفنهم في هذه البحار المتلاطمة فسوف يصلون إلى شاطىء الأمان ، ولكنه ما أن وصل إلى الضفة الأخرى ، حتى نادى هل أنا يا بحر منك .
نعم قد لا يصل الكثيرون إلى تلك المرحلة التي وصلت إليها يا إيليا ، فقد تاه مركبك .
ولكن الكثيرون تائهون ، وهذا التيه لا يستثنى منه أحد للأسف ، فقد يكون هذا التائه ، يصلى خمسه ويؤدي زكاته وحج ويعرف تماما ما يتعلق بعباداته ولكنه تائه ، ومع ذلك هو عنصر هدم في الأمة وليس عنصر بناء .
نعم للأسف هو يظن نفسه ظنا أنه مصلح ، ولكنه في الحقيقة مفسد ، ولذلك أخاف من الجهل ، وأخاف من نقص الوعي ، وأخاف من عدم وضوح الرؤيا عند الإنسان .
فهذا صاحبي من أهل بدر غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، ومع ذلك يقع في معركة الوعي ، فيرسل الخبر إلى كفار قريش بأن المسلمون يعدون العدة لهم ، ولو لم يكن الرسول صلوات ربي عليه موجودا لكان الحكم ضرب عنقه كما قال عمر ، ولكننا نقف عند ذلك الحد البشري من الوعي ، والرسول يقف عند ذلك الحد الذي يكشف الله له ما يشاء ، فعلمنا محدود بحدود قدرتنا وعلم الرسول متسع بحد الكشف له ، ولذلك عفا عنه .
وكم نعلق بحدود بشريتنا ، نعم نعلق بحدود بشريتنا ، فندرك ما تسعفنا به قدرتنا على ادراكه ، ونعجز عن الباقي ، ولكن الله وضع السبب والمسبب ، وخلق السنن وجعلها ثابتة لا تتغير ، ومنحنا القدرة والعقل وفهما للتعامل معها ، ومن الدين أن نفهم مقاصد الدين ، وربط الفهم بمجموعة من أهل العلم، وجعل المجموعة متخصصة في الأمر وقادرة على سبر ابعاده ، والوصول إلى ما خلفه فهما وتحليلا وأثرا ، ولذلك عدم وجود هذه الفئة جعل الامة كلها معرضة للإستهداف والخسارة .
﴿وما كانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنهم طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهم إذا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهم يَحْذَرُونَ﴾
يقول ابن عاشور في التحرير ، وإذْ قَدْ كانَ مِن مَقاصِدِ الإسْلامِ بَثُّ عُلُومِهِ وآدابِهِ بَيْنَ الأُمَّةِ وتَكْوِينُ جَماعاتٍ قائِمَةٍ بِعِلْمِ الدِّينِ وتَثْقِيفِ أذْهانِ المُسْلِمِينَ كَيْ تَصْلُحَ سِياسَةُ الأُمَّةِ عَلى ما قَصَدَهُ الدِّينُ مِنها، مِن أجْلِ ذَلِكَ عَقُبَ التَّحْرِيضُ عَلى الجِهادِ بِما يُبَيِّنُ أنْ لَيْسَ مِنَ المَصْلَحَةِ تَمَحُّضُ المُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ لِأنْ يَكُونُوا غُزاةً أوْ جُنْدًا، وأنْ لَيْسَ حَظُّ القائِمِ بِواجِبِ التَّعْلِيمِ دُونَ حَظِّ الغازِي في سَبِيلِ اللَّهِ مِن حَيْثُ إنَّ كِلَيْهِما يَقُومُ بِعَمَلٍ لِتَأْيِيدِ الدِّينِ، فَهَذا يُؤَيِّدُهُ بِتَوَسُّعِ سُلْطانِهِ وتَكْثِيرِ أتْباعِهِ، والآخَرُ يُؤَيِّدُهُ بِتَثْبِيتِ ذَلِكَ السُّلْطانِ وإعْدادِهِ لِأنْ يَصْدُرَ عَنْهُ ما يَضْمَنُ انْتِظامَ أمْرِهِ وطُولَ دَوامِهِ، فَإنَّ اتِّساعَ الفُتُوحِ وبَسالَةَ الأُمَّةِ لا يَكْفِيانِ لِاسْتِبْقاءِ سُلْطانِها إذا هي خَلَتْ مِن جَماعَةٍ صالِحَةٍ مِنَ العُلَماءِ والسّاسَةِ وأُولِي الرَّأْيِ المُهْتَمِّينَ بِتَدْبِيرِ ذَلِكَ السُّلْطانِ، ولِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ مُلْكُ اللَّمْتُونِيِّينَ في الأنْدَلُسِ إلّا قَلِيلًا حَتّى تَقَلَّصَ، ولَمْ تَثْبُتْ دَوْلَةُ التَّتارِ إلّا بَعْدَ أنِ امْتَزَجُوا بِعُلَماءِ المُدُنِ الَّتِي فَتَحُوها ووَكَلُوا أمْرَ الدَّوْلَةِ إلَيْهِمْ. أنتهى .
نعم التحصين الذاتي للفرد والأمة هو الأساس في قيام الدول والحضارات والمدنيات واندثارها ، ولذلك عندما تجد ان الفرد محصن ، فهذا معناه ان الامة محصنة ، ولا يستطيع العدو النفاذ الى هذه الامة الا بصعوبة بالغة .
واعود مرة أخرى الى صديقي د المسيري ، فهو يرى بأن هذه من اساسيات النصر والإزدهار والنهضة للأمة ، وعليه فهو يعتمد على تحليل المجتمع على اساس الجماعات الوظيفية في أي مجتمع وهذه لها قصة مختلفة وسنأتي عليها لاحقا ، ويكمل بأن الفرد المحصن تحصين ذاتي ضد العوامل الخارجية السلبية ، هو عنصر بناء في المجتمع ، وأن العناصر التي تهدف إلى خلخلة وزعزعة ثقته بدينه وأمته وقيادته، قد تؤدي إلى فرد هو عنصر هدم في المجتمع .
ولذلك يخلص بأن اليهودي الصهيوني في صورته الحالية ليس عنصر بناء في المجتمع الذي يكون فيه ، ولكنه عنصر هدم حتى في مجتمعه نفسه ، وان قوة الكيان تأتي من الدعم الخارجي من دول التحالف وعلى رأسها الولايات المتحدة ، ومن أن هذه القوى الخارجية ترى هذا الكيان جماعة وظيفية بالنسبة لها تحقق أهداف استراتيجية هامة في تفتيت وعزل واخضاع المنطقة لهذه القوى .
وتم الزج بمجموعات بشرية من أعراق وأجناس مختلفة لتحقيق هذا الهدف ، ولذلك يبقى التجانس بين هذه المجموعات البشرية والافراد تجانس هش قائم على المصالح ، هذه الجماعة الوظيفية غير محصنة تحصينا داخليا ، وهي عرضة للتفتت والهزيمة اذا انقطع الدعم الخارجي ، وهذا ما رأيناه واضحا في الحرب الأخيرة على غزة .
بينما في الصورة الأخرى يقف الفلسطيني مجردا من كل شيء تقريبا حتى من الدعم العربي الحقيقي ، وهنا طبعا أتكلم عن الدعم الحقيقي في أرض المعركة كما يفعل التحالف مع الكيان ، ومع ذلك هنا الفرد يقف محصنا تحصينا ذاتيا عاليا ، يجعله يصمد في مواجهة كل هذا الظلم والبطش والقتل والتجويع والإبادة ، في مقابل انسان يتلقى كل هذا الدعم ولكنه غير محصن ذاتيا .
الأمة اليوم تمر في منعطف خطير ، البعض يرى أن الحل هو اتباع التحالف الغربي والتنكر للأمة وقضاياها وحتى دينها بصورة ما ، أو هو كما يقول صاحبنا المسيري لا يريدها علمانية شاملة فهذه كفر محض ، ولكنه يريدها علمانية جزئية بحيث يأخذ ويترك وهذه فيها نظر ، ولكن عندما تضع مصلحة الأمة على الطاولة عندها يتضح الغث من السمين في الأمر .
قد يكون هذا الطرح كما نرى مع بعض الدول الإسلامية يحقق مصالح فردية في أمور معينة ، فالذي يزود الكيان بالنفط هي دولة اسلامية عبر دولة اسلامية أخرى ، وهذا في سبيل مصالح ذاتية ، ولكن عندما يرتقى الفرد لمصالح الأمة العليا ويحقق مقاصدها العليا ، عندها تتحقق الخيرية والأفضيلة للأمة جميعا .
ولكن للأسف لن تستطيع الدول الفردية القائمة اليوم على تحقيق هذه المعادلة ، نتيجة للظروف المحلية والعالمية ، ولكن هل هذا ينمع أن نحصن الفرد تحصينا ذاتيا على مستوى الأمة ، حتى نصل إلى تلك المرحلة التي يتحقق فيها الحلم .
هل ادركنا طبيعة التحصين الفردي واهميته في بناء الأمة .