التشيؤ أو التسلع ...

{title}
أخبار الأردن -

إبراهيم ابو حويله...

لقد ضعنا ، لقد أضاعتنا الحضارة ، بدل أن تكون الطريق الذي نسلكه لنجد أنفسنا ، هل أدركنا حقا ما يحدث . 

بعض المصطلحات التي يطلقها الدكتور عبد الوهاب المسيري تقف معها موقف إعجاب ، هو لم يتجاوز الخطوط الحمر للإكاديمية الإمريكية فقط ، بل هو تجاوز الكثير من الخطوط في حياته .

المسيري ظاهرة تستحق الإحترام ، فهو كما يحدث عن نفسه في كتبه مغرم بالتنميط والأنماط والنماذج ، ويسعى لقولبة كل شيء حوله وفق هذه النمطية التي يعشقها ، والتي جعلت حياته كلها تتجه في إتجهات محددة ، ربما هذه العقلية هي من حقق له هذا التميز ، فهو ليس كغيره . 

نعم كما يقول هو لم يكن متميزا في المدرسة بل كان يواجه صعوبة بالغة في المدرسة ، هل هي تلك العقلية التي ساهمت بذلك ، ربما ولكن المهم هو أنه إستطاع أن يجد نفسه في مكان ما .

 وهكذا بدأت رحلته مع تعلم اللغة الإنجليزية في الإسكندرية وبعدها رحلة الماجستير والدكتوراة في أمريكا ، لم يكن سهلا في ستينيات القرن الماضي ان تكون أجنبيا لا بل عربيا في جامعة أمريكية ، فكل شيء هنا يختلف 

ولكن طريق المسيري في مواجهة الحياة جعلته يصل الحد الأعلى في المسألة دائما ، فهو لديه القدرة والمقدرة والإستمرارية على إستيعاب الأمر الذي يتناوله حتى لو كان يقضي في سبيل ذلك معظم نهاره وليله بدون إنقطاع لأي سبب ، فهو يفرغ ساعات طويلة تصل إلى خمسة عشرة ساعة يوميا للشيء الذي يريده ، بدون أن يشغل نفسه بأي أمر أخر . 

هذا الأمر جعله يستوعب تماما القضية التي أمامه ، ثم يحللها بعد ذلك ، ثم يسعى لأن يجد لها نمطا أو سلوكا أو منهجا ليفهم  مآلاتها وطريقة تصرفها ونشأتها وكل ما يتعلق بها .

 ولذلك عندما تناول اليهود واليهودية في موسوعته الشهيرة أقض مضاجعهم ، فقد وضعهم تماما على طاولة التشريح والتفصيل وخرج بإنماطهم الفكرية ووسائلهم ومكامن القوة والضعف لديهم ، وبين تماما ما الذي يجب عمله لتخلص من هذا الإستعمار الإحلالي الذي وضعه الغرب في هذه المنطقة  . 

هو كما يحدث عن نفسه أضطر لجنة النقاش لرسالة الدكتورة أن تمنحه الشهادة بدون حتى مصافحته وتهنئته ، وقالوا لقد أصبحت حياتنا بعد رسالة المسيري شيئا أخر ، ولسان حالهم يقول أنا أقر لك بالفضل في كشف حقيقة المجتمع الأمريكي ، ولكني أكرهك لذلك .

 لقد كانت نماذجه قادرة على تحديد وجهة الأخر ، بل ذهب في ذلك بعيدا ، حيث أنه ونتيجة للتحليل والنمطية التي يتبعها للنص ، إستطاع أن يعرف اتجاهات الإنسان المقابل له وحتى الإنحراف الموجود في شخصيته ، بل حتى ميوله السياسية والإجتماعية ، ومن أي طائفة هو مسلم ، مسيحي كاثوليكي او بروتستنتي أو يهودي ، وحتى الشاذ من غير الشاذ ، كما حصل مع احد المناقشين له في الرسالة ، والذي قال للمشرف الخاص به بأن هذا يحمل هذا الفكر ، فقال له المشرف ولكن هذا متزوج وله عائلة ، وبعد سنوات إتصل المشرف بالمسيري مهنئا لقد تحققت النتيجة التي توقعتها بشأن فلان . 

نقف اليوم مع ظاهرة ستكون لها تبعات قاسية على المجتمع بل على الأمة جميعها ، فقد انخرطنا جميعا كما يقول المسيري في التشيؤ والتسلع ، نعم أصبحنا سلعا تبحث عن سلع ، ونرى الحياة من خلال الاشياء والماديات ، لقد إبتعدنا عن عالم الروح والفكر وإنخرطنا تماما في عالم التشيؤ .

( يقول المسيري نحن نعيش في عالم يحولنا إلى أشياء مادية ومساحات لا تتجاوز عالم الحواس الخمس، إذ تهيمن عليه رؤية مادية للكون ، هذه الظاهرة يطلق عليها التشيؤ)  نحن نفقد الحياة بالتدريج في البحث عن الأشياء واحترام الأشياء بل وصل الأمر إلى تقديس الأشياء ، وجعل السعادة والتعاسة والحياة والنمو والتطور والحضارة والمدنية كل ذلك مرتبط بالأشياء . 

عندما يفقد الإنسان بالتدريج ونتيجة للظروف المحيطة معنى الحياة، وينتقل كما يقول مالك من عالم الأفكار إلى عالم الأشياء ، وتصبح طريقة وآلية الزواج أهم من الزواج ، والمسمى أهم من العمل ، والشهادة أهم من الإنسان ، عندما تصبح الساعة والسيارة والوظيفة هي القيمة الحقيقية للإنسان، عندها ما الذي بقي من هذا الإنسان. 

النموذج الذي حرص الرسول صل الله عليه وسلم على بنائه في مكة كان مختلفا تماما يضع قيمة الإنسان والفكرة قبل قيمته الإجتماعية أو المادية ، فقد كان أبو بكر وعمر والصحابة في هذه الفترة منغمسين في عالم الأفكار ، ولذلك لم يهتم عمر رضي الله عنهم جميعا لثوبه ولا هو راكب او سائر ، فقد ساد عالم الفكرة والمبدأ على عالم التشيؤ .

ويقول المسيري قد يقيم هذا الإنسان الوظيفي الصلاة في مواقيتها، ولكن كل ما حوله يخلق له بيئة معادية لإدراك مفهوم القيمة المتجاوزة لعالم الحواس الخمس وجدواها. لقد سقط الإنسان في المنظومة المادية واخترقته مجموعة من الأحلام والأوهام والرغبات لا يدرك تضميناتها الاجتماعية والأخلاقية، رغم أنها توجِّه وتحدِّد أولوياته دون وعي منه . أنتهى كلامه 

لقد حولنا الأشياء ووجودها وأهميتها إلى قيمة قصوى بل أصبحت هي الهدف من الحياة ، وفي ظلها أضعنا الحياة ، فليس الهدف من الزوجة ما قبلها ولا الطريقة التي يتم الزواج بها ولكن الزوجة ، وليس الهدف من الوظيفة المسمى والمكتب ، وليس الهدف من الحياة التكديس والتجميع كما يقول مالك ، ولكن الهدف هو الإنسان وما يتصل به ، وما يجعل حياته ممكنة ، وتحقيق أهدافه مستطاعا ، ما يصوغ أفكاره وشخصه وأهدافه . 

 

تابعوا أخبار الأردن على