الاقتصاد مرآة حالة الإدارة الحكومية العربية
الدكتور خالد واصف الوزني *
يقوم مفهوم علم الاقتصاد على حُسن إدارة الموارد الاقتصادية، وما يعنيه ذلك من استغلال أمثل لتلك الموارد في سبيل تحقيق أكبر نفع ممكن للفاعلين في الاقتصاد، أفراداً ومؤسَّسات. وعليه فإنَّ تقدم الاقتصادات أو تراجعها، أو دخولها أطوار النمو المختلفة، يقوم أساساً على قدرة من يُدير الاقتصاد على توظيف الموارد البشرية والمادية لتحقيق التنمية الحقيقية، وهو ما ينعكس على مستوى جودة الحياة، وتحقيق الاستقرار النقدي، والاجتماعي، وحتى السياسي. بيد أنَّ مسيرة التنمية للدولة المتقدمة، وتلك التي توسَم على أنها في طور النشوء والتنمية، تُشير إلى أنَّ القائمين على الإدارة العامة استطاعوا أن يحقِّقوا للدول أفضل توظيف للموارد البشرية أولاً، والتي بدورها استطاعت أن تحقِّق أكبر العوائد من الموارد الطبيعية للدول.
ذلك أنَّ حُسنَ تعليم وتدريب وتأهيل وإدارة العنصر البشري هو الذي يحدِّد القدرة على حسن استغلال عناصر الإنتاج الأخرى من أرض، ورأس مال مادي، ومؤسسات تنظيمية.
الشاهد ممّا تقدَّم، أنه كلما تحسّن مستوى الإدارة العامة، تمكَّنت الدول من الصعود في سلم التنمية الاقتصادية، وبالتالي الوصول إلى مستويات أفضل من جودة الحياة.
فالدول المتقدمة، دون استثناء، تتقدَّم بحسن إدارتها لشؤون اقتصادها ومواردها البشرية والمادية.
ومن هنا فإنَّ الفروقات بين الدول، والعالم العربي ليس استثناءً، إنما هي فروقات في حسن إدارة الاقتصاد. وفي هذا السياق فإنَّ تقرير "حالة الإدارة الحكومية في العالم العربي: واقع وآفاق"، والذي صدر عن القمة العالمية للحكومات 2022، وبمساهمة فاعلة من كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية، وضع النقاط على الحروف في توصيف مستوى الإدراة العامة في العالم والعربي، والتحديات التي تواجهها، خاصة ما يتعلَّق بالتركيبة السكانية الشابة، ممن تقل أعمارهم عن 30 عام، التي تتجاوز 60% من إجمالي السكان، والتي يقابلها مستويات بطالة بين الشباب تتجاوز 30%، وهي نسبة تصل إلى نحو 50% في بعض الحالات، ما يشير صراحة إلى ضَعف القدرة الإدارية لدى العديد من الدول العربية في استغلال الموارد الاقتصادية، المادية والبشرية، ويفسِّر الحالة التنموية الضعيفة التي تتسم بها جلُّ دول المنطقة.
وقد أشار التقرير إلى مفاصل عدة في الإدارة الحكومية العربية، ضمن دراسة شاملة لوضع تلك الإدارات، ويأتي على رأس ذلك التحديات الرئيسة التي تواجه الإدارات الحكومية في الوطن العربي اليوم، والتي تتمثَّل في خمسة مجالات أساسية أولها تدنّي إنتاجية رأس المال البشري، وضعف مهاراته، إضافة إلى ركونه إلى الأمان من عدم الخضوع للمساءلة المؤسسية، ثمَّ يأتي بعد ذلك تحدي تضخُّم القوة العاملة في القطاع العام؛ أي تراكم البطالة المقنّعة ضمن وظائف لمدى الحياة، وفي التحدي الثالث يأتي ضعف تبنِّي التقنيات الحديثة، وبطء عمليات التطوير، ثمَّ ضعف الإدارة المحلية والركون إلى التخطيط والتنفيذ المركزي، وأخيراً وليس آخراً، التأثير سياسياً في عمل أنظمة الخدمة المدنية، وغياب مفهوم الجدارة.
بيد أنَّ ما لم يقله التقرير مباشرة أنَّ التحديات المذكورة هي حوصلة أو نتيجة، ما تعاقب على الإدارة العامة في العديد من الدول العربية من قيادات إدارية، وصنّاع قرار في غير مكانهم أو مجالهم. وهو ما أوصل الاقتصادات العربية، في معظمها، إلى فكر الاقتصاد الريعي، بدلاً من الاقتصاد الإنتاجي، وهو أيضاً ما أوصل المالية العامة إلى موازنات تُبنَى على معدلات النمو، وليس على مشاريع التنمية والتطوير. وهو إضافة إلى كل ما سبق، ما أوصل إلى اعتبار العمل العام بوابة لفتح الشواغر واستيعاب البطالة، فهو "بيت أبي سفيان الآمن".
في حين أنَّ مفهوم الدور الدستوري للحكومات في توفير العيش الكريم والوظيفة المناسبة، يقوم على أنه الدور الذي يجعل الحكومات تحقِّق التنمية من خلال المشاريع، التنموية المشتركة مع القطاع الخاص، قبل المشاريع العامة، وما يعنيه ذلك من توليد وظائف داخل الاقتصاد، عبر تلك الشراكات، ومن خلال توليد الوظائف المساندة لعمل الحكومة، ولمشاريع القطاع الخاص.
تقرير "حالة الإدارة الحكومية في العالم العربي: واقع وآفاق"، وثيقة تستحق القراءة، فهو يضع الطريق أمام صنّاع القرار، ضمن توصيات واستنتاجات، تساعد على البدء بخارطة طريق لتصويب المسار، وهي طريق لا بدَّ من البدء بسلوكها اليوم وضمن خطة استشراف مستقبل للعشرين عام القادمة، يخرج بعدها الاقتصاد من طور الدول الريعية، إلى فضاء النمو والتنمية وتحسين جودة الحياة. ولعلَّ من المفيد الإشارة إلى ما ذهب إليه التقرير في خاتمته، حول الدروس التي تعلمتها حكومات المنطقة العربية والقطاع الخاص فيها، وهي دروس تتلخَّص في أنَّ التقنيات والتكنولوجيا والرقمنة هي محددات مستقبل الاقتصاد، فمن يتخلَّف عنها، لن يسعه السيطرة حتى على مكوناته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأنَّ البيانات الكبرى وتوظيفها ضمن إنترنت الأشياء هي أساس إدارة المستقبل، مع التركيز على القدرة التحليلية والمعرفية لاستخدام البيانات الكبرى، وليس فقط تخزينها، أو توفيرها.
أمّا الدرس الثالث فهو يتمحور حول إعادة تشكيل مستقبل العمل الحكومي، ذلك أنَّ المرونة والرشاقة الحكومية ستحدِّد مستوى قدرة الحكومات على السيطرة على الاقتصاد والمجتمع والسياسة.
وأخيراً وليس آخراً، فإنَّ الدرس الأهم يتمثَّل في أنَّ العودة إلى البيروقراطية الحكومية والروتين البطيئ مسارٌ مكلفٌ لكل من يصرُّ عليه أو يعمل به؛ لأنه سيخسر جودة الحياة وجودة الاقتصاد، وسيخسر موارده البشرية الجيدة، بل واستثماراته الوطنية لغيره من دول العالم، وقد يخسر، في مرحلة ما، استقراره الداخلي وكيانه واستقلاليته.
• أستاذ مشارك سياسات عامة - كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية