عصر ما بعد الحقيقة

{title}
أخبار الأردن -

 

حسني عايش
وقد ألفت كتاباً بهذا العنوان “عصر ما بعد الحقيقة”، وهو كذلك: عصر ما بعد الحقيقة لأنه صار بإمكان كل من هب ودب في عصر الإنترنت أو وسائل التواصل الاجتماعي إطلاق رسائل/ بوستات خاطئة جهلاً أو مضللة عمداً، فيتناولها مغفلون أو متصيدون سريعاً ويعيدون نشرها، مما يتسبب بانتشار كبير لها. وقد تؤدي إلى ارتباك عظيم في الإدارة أو في قطاع أو في المجتمع وحتى في الدولة، والعالم.

نشأت مشكلة التطعيم المصطنعة في الأصل على يد طبيب بريطاني اسمه أندرو ويكفيلد ادعى نتيجة بحث رديء أجراه على 12 طفلاً فقط، أنه وجد ارتباطاً بين التطعيم والتوحيد، فتدافع المغفلون والسذج والجهلة في أميركا لتلقف هذا النبأ أو الادعاء لمنع تطعيم أطفالهم. ومع أن كثيراً من أطفالهم ماتوا نتيجة مقاطعة التطعيم، إلا أنهم استمروا في تصديق ويكفيلد الذي سحبت رخصته الطبية وطرد من جميع هيئات الطب البريطانية.

يبدو أن قبول المرء للأكاذيب والخرافات والحكايات واللا معقول.. يزداد في حالة المرض، لأن عقل المريض يصبح قابلاً للاستهواء بسهولة. ومن ذلك أن امرأة كانت مصابة بالسرطان في فلسطين وفي حالة بائسة، سمعت من أحد الزوار أن طبيباً عشبياً في عمان قادر على الشفاء من السرطان، فأصرّت على استحضار دواء منه كما قال لي ذووها. وبعد الاتصال به ومفاصلته أنزل سعر الدواء الموهوم من ثلاثة آلاف دينار إلى 2900 دينار. وبعد وصول الدواء وتعاطيه بأسبوع ماتت المرأة، وحاول ذووها ارجاع القنينة الثانية الباقية إلى الطبيب الكذاب فرفض قائلاً لهم: إنه صنع الدواء خصيصاً لها فلا يصلح لغيرها، مع أنه لم يرها ولم يلتق بها فقد تم كل شيء عن بُعد.
في عصر انتشار نظريات المؤامرة التي لا أصل لكثير منها، انتشرت الإشاعات والأكاذيب والأضاليل، ومنها ما أضر كثير بالصحة والسلامة.
تُرى لماذا يميل بعض الناس أو كثير منهم إلى تصديق الإشاعات والأكاذيب والخرافات واللا معقولات وفق الطبيعي؟
حسب البحوث العلمية فإن الخبر السلبي أكثر جاذبية من الإيجابي فأنت إذا انتقدت الحكومة بشدة، يكثر المتابعون لك. ولكنك إذا مدحتها فإنهم يدورون الوجه عنك، وكلما كان عيار النقد شديداً ازداد الانتباه إليه، وهكذا. كما أن بعض الناس يعجز عن التمييز بين المعقول واللامعقول، أو لديهم سوء فهم عن طبيعة العلم والأمصال والتوحد، أو يتأثرون بمصدر الادعاء كالطبيب ويكفيلد، فهو طبيب وباحث وعالم مع أن هدفه قد يكون الشهرة أو الثروة أو له أجندة خاصة.
ويصدّق ضعاف العقول هذه الترهات، فقد بينت البحوث الكثيرة التي بين يدي عن وجود ارتباط قوي بين مهارات التفكير الضعيفة وقبول اللا معقولات والخرافات... ففي بحث أجري على طلبة إحدى الجامعات في أميركا تبين أن الطلبة المقصرين أكثر وأسرع تصديقاً للخرافة واللا معقول من المتفوقين. وبعبارة أخرى لأن المصدقين لهما لا يملكون قدراً كافياً من التفكير الناقد، أو المعرفة العلمية التي تحميهم من الوقوع في حبال الخرافة واللامعقول.. أو لأن لديهم معتقدات مسبقة فيتحيزون إليها.
كما قد يعاني بعض هؤلاء سريعي التصديق للإشاعة أو الخرافة أو اللا معقول.. من عجز عقلي (Mind Deficit) أو من عجز في التفكير الناقد (Critical Thinking Deficit) أو أنهم يستخدمون العقل الحدسي أو السريع في التعامل مع اللا معقولات والأكاذيب والخرافات فلا يفكرون بالعقل الثاني التأملي، ملياً فيها، ففي أميركا – مثلاً- يصدق عامة الناس وعدد غير قليل من المتعلمين، إشاعة إلكترونية أن السلطات الرسمية تخفي مادة كيماوية في المصل تتسبب بالتوحد. كما صدقوا الإشاعة الشهيرة عن هيلاري كلينتون وعصبة من الليبراليين أنهم يديرون بيوت دعارة ويتاجرون بالأطفال ويقتلون آلافا منهم سنوياً، أطلقها أحد الخصوم في الانتخابات الرئاسية، فجعلتها تفشل في الانتخاب. كما يصدقون إشاعة أخرى أن بشراً على شكل سحالي جاءوا من كوكب آخر، واتخذوا شكل قادة الأرض، وأن أفراداً معينين من الناس لديهم قدرات استثنائية تجعلهم قادرين على تحريك الأشياء عقلياً أي عن بُعد. كما يصدق بعضهم إشاعة جديدة أن في كل مصل رقيقة دقيقة (Microchip) تجعل السلطات قادرة على من يطعم بها على مراقبته طيلة الحياة، مع أنها جميعاً مجرد ادعاءات لا يدعمها الدليل العلمي.
لعل أحسن طريقة لفضح مطلقي الإشاعات ومروجي الخرافات أو الإدعاءات الكاذبة الطلب منهم بالتلفزيون علناً تقديم البراهين العلمية على صحتها، وإلا عوقبوا. وفي حالة غيابهم الطلب من الخبراء المختصين تقديم الأدلة العلمية على كذب هذه الادعاءات.

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير