تمارا خزوز تكتب:المجتمع المدني: طاقة الاقتراح والمساءلة

{title}
أخبار الأردن -

  تمارا خزوز

من اللافت في هذه المرحلة، التي تعقّد فيها المشهد السياسي الإقليمي وتزايدت فيها المؤشرات على تحوّلات خطيرة قادمة لا محالة، أن الحضور الاستباقي للمجتمع المدني لا يزال خجولًا، إن لم يكن غائبًا.
والحقيقة أن ما يبرّر هذا الانطباع هو أن عبارة «طاقة اقتراح ومساءلة»، التي تُستخدم في السياقات الأكاديمية والسياسية، لم تأتِ من فراغ؛ فهي تشير إلى الدور الحيوي للمجتمع المدني، وتنفي عنه الطابع التنفيذي أو الخدمي، لتضعه في موقع أكثر ديناميكية، يتمثّل في اقتراح البدائل ومراقبة الأداء الحكومي—لا سيما في لحظات حاسمة كتعليق المساعدات، التي تشكّل اختبارًا فعليًا لاستقلاليته وقدرته على قيادة الاستجابة.
وفي السياق نفسه، شكّل قرار الإدارة الأميركية تعليق جزء من المساعدات المقدّمة للمملكة، وعلى رأسها تمويل USAID، لحظة كاشفة لاختلال العلاقة بين المجتمع المدني والمانحين، وأعاد طرح أسئلة جوهرية حول حساسية الاعتماد على التمويل المشروط، وحدود استقلالية المنظمات المحلية.
تاريخيًا، لم تخلُ علاقة المجتمع المدني الأردني بالجهات المانحة من إشكاليات بنيوية، واتسمت في كثير من الأحيان بعدم التكافؤ؛ فقد فُرضت أولويات تتجاوز السياقات المحلية وتُغفل احتياجات المجتمعات الفعلية، فيما احتفظت المنظمات ذات الطابع الرسمي أو شبه الحكومي بنفوذ تفاوضي أكبر، مقابل شروط تقنية وإجرائية أضعفت استقلالية المنظمات الأخرى.
يواجه المجتمع المدني اليوم، على المستوى الداخلي، إشكاليات تتمثل في ضعف التنسيق، وتشتت الجهود، وتركّز النشاط في العاصمة على حساب الأطراف. كما أن كثيرًا من المبادرات تُصمّم استجابة لموجات التمويل لا لاحتياجات فعلية، ما يجعلها هشّة وقابلة للتلاشي مع أول أزمة.
وعلى مدار سنوات، شهد دور المجتمع المدني قدرًا من التشوّه، نتيجة تداخل الأدوار التنموية والحقوقية والسياسية للأطراف الفاعلة، سواء بسبب سوء التقدير أو في ظل غياب بيئة حزبية فاعلة تقوم بدورها السياسي؛ ما أفقده التوازن بين التمثيل والمناصرة، وبين المبادرة والاشتباك المؤسسي.
أما من جهة الدولة، بالمجمل لم تتطوّر العلاقة مع المجتمع المدني على أساس شراكة متكافئة؛ بل ظلّت محكومة بمنطق الضبط وإعادة التوجيه، أو بمحاولات إعادة ترتيب المشهد المدني من خلال تمكين قيادات جديدة، كانت في معظمها أقل حضورًا أو تأثيرًا مجتمعيًا. وهي حالة لم تصب في مصلحة الدولة عندما احتاجت إلى حواضن اجتماعية وسياسية تُسند مواقفها إزاء القضايا الكبرى التي برزت مؤخرًا.
في المحصّلة، وأمام هذا الواقع المركّب، لا يبدو أن الحل يكمن في انتظار عودة التمويل أو تحسّن العلاقات السياسية، بل في انطلاق مؤسسات المجتمع المدني من قواعدها المجتمعية ذاتها، عبر استثمار فعلي في بناء القدرات المحلية، وتفعيل أدوات التنظيم الذاتي، وتعزيز المهارات الإنتاجية وريادة الأعمال. هذا التوجّه لا يعني الانكفاء عن الشراكة مع المانحين، بل يستدعي إعادة تعريف العلاقة معهم على أسس من الندية والاستقلالية، بما يضمن استدامة المبادرات ومشروعيتها الاجتماعية.
لا يوجد أمام المجتمع المدني اليوم خيار سوى إعادة التموضع، لا كمستقبِل للمساعدات أو مقاول للتنمية، بل كفاعل مستقل يتكئ على شرعية مجتمعية، ويعمل في المجال العام كقوة اقتراح وتنظيم ومساءلة. وإذا عدنا إلى السؤال: من أين نبدأ؟ فالجواب: نبدأ من حيث أمكن!


 

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير