بين الأفكار ورموزها
يحول الإنسان في تراكم بطيء وراسخ الأفكار الأساسية إلى رموز، وتتحول هذه الرموز إلى أوعية تحمل الأفكار في هيئات وصيغ كثيرة، مثل المقدسات والقيم والعادات والتقاليد والأعراف، لأنه وببساطة يصعب التفكير في كل مرة أو في كل مناسبة بما يجب فعله أو تفسيره، فتتقدم اقتراحات وأفكار لتفسير ما يجب فعله أو لبناء الإجابات والمعتقدات والمشاعر، لكن يحدث دائما أن هذه الاقتراحات بما هي ابتداء رمز لفكرة أساسية كبرى أو احتياجات سلوكية واقتصادية إلى أصول ويقينيات كبرى تحجب الفكرة الأساسية التي ترمز إليها، ولا يعود يتذكرها إلا القليل من الناس، وهؤلاء الذين يعرفون يتحولون إلى أقلية خارجة من السياق أو خارجة عليه. ثم في مرحلة ثالثة يتشكل حول هذه الرموز طبقات ومصالح وجماعات وأعمال سوف تدافع عنها بطبيعة الحال وتهاجم كل من يحاول التقليل من شأنها، حتى أولئك الذين لا يؤمنون بها إذا كانوا يستفيدون منها أو يحتاجونها فإنهم سوف يدافعون عنها، فأن تكون شركة تنتج أو تسوق منتجات بلاستيكية على سبيل المثال؛ سوف تدافع عن أهميتها وتدعو إلى تخفيض الضرائب وتشجيع الاستثمار في مجالها، لكن هذا لا يعني أن أصحاب الشركة يستخدمون هذه المنتجات البلاستيكية.
يلجأ الإنسان بحثا عن الإجابات وحلول المشاكل إلى العلم أولا بما هو فهم الحقائق كما تدركها الحواس، لكنه يعجز غالبا أو يتأخر كثيرا حتى يستطيع ذلك، فيلجأ إلى البحث والتأمل المنطقي والعقلاني لينشئ اقتراحات وأفكارا هي وإن كانت تبدو صحيحة لكنها تظل في حاجة إلى التجربة والاختبار التطبيقي، وتظل أيضا عرضة للزلل الناشئ عن العجز والتشويش في التأمل والبحث، ذلك أن العقل لا يعمل دائما على نحو نزيه وصحيح، لكن الإنسان ينتج بوعي أو بدون وعي إدراكا عقلانيا للمسائل متأثرا بالأهواء والرغبات، ويعقلن اللبس بين الغرائز الأساسية الضرورية وبين الأهواء والمشاعر.
يكون البديل في أفكار وإجابات تحمل القداسة أو مستمدة من المقدسات، وبرغم أن اليقين لا ينتج يقينا والمقدس لا ينشئ مقدسا، فما ينشأ من الحقائق والمقدسات الدينية يظل عملا إنسانيا حتى وإن كان يبدو مقدسا أو مستمدا من المقدس، وهنا تنشأ أعقد إشكالية في حياة الناس حين يعتقدون أن الحلول والأفكار الإنسانية هي تعاليم نزلت من السماء لمجرد أن أصحابها اعتمدوا في صياغتها على فهمهم الذاتي للمقدسات الأساسية الكبرى.
وننسى بمرور الزمن وتراكم الأفعال والممارسات والاجتهادات أن ما لدينا من ذلك ليس سوى حيلة لإدارة الغموض العميق الذي يلف الكون والحياة، وأن هذا الغموض أو العجز جرى استيعابه على نحو ما بمنظومة من الأفكار والطقوس والرموز والتصورات التي تشعر بالغموض وتحاول في الوقت نفسه أن تديره وتنظمه. وأنها في الأصل ليست سوى اقتراحات إنسانية لتدبير ما عجز العلم عن تقديمه، لكن العلم يتقدم أيضا مع الزمن، ويزحف نحو "المقدس" بأدواته الجديدة ويعيد تفسيرها بل وينشئ تطبيقات عملية تجعل الحياة أفضل، برغم ما في ذلك من صدمة عميقة للمعتقدات التي اكتسبت القداسة.
يفترض أي تصور ديني للعالم التمييز بين المقدس والدنيوي، والإنسان المتدين هو من يعتقد بوجود وسطين متكاملين، أحدهما يستطيع الإنسان أن يتحرك فيه بعيدا عن القلق، والآخر يضبط فيه كل ميل من ميوله ويحتويه ويوجهه شعور حميم بالتبعية. ويتحدد العالمان المقدس والدنيوي كل بالآخر، حتى يستحيل بمعزل عن هذه المقارنة إعطاء تعريف دقيق لأي منهما. هكذا يبدو المقدس إحدى مقولات الإحساس، بل هو في الحقيقة المقولة التي يبنى عليها السلوك الديني، تلك التي تمنحه خاصته النوعية، وتفرض على المؤمن شعورا مميزا بالاحترام، يحصن إيمانه ضد روح النقد، كما تجعله بمنأى عن الجدل العقيم بوضعها إياه خارج نطاق العقل وما وراءه.
تظهر الأحداث والتحولات ما يمكن الاستغناء عنه أو ما هو أصل ديني وما ليس أصلا، وإذا كانت الضرورات الحسية والواقعية أنشأت فهما جديدا للدين والتطبيقات الدينية فلا بد أن ما يمكن الاستغناء عنه أو استبداله لم يكن أصلا دينيا، بل اقتراحات وأفكار مؤسسية وجماعية وتنظيمية تنتسب إلى الدين.