غزة في نيويورك أيضا

ماهر أبو طير 

وسط هذا التطاحن في المنطقة، عادت قصة الإغاثة الإنسانية لقطاع غزة، لتتراجع مجددا، في ظل مشهد تزيد إسرائيل من مأساويته بسبب استمرار الحرب وما ينتج عنها من كوارث.

أضرار الحرب الإنسانية يعرفها الكل، لكن الأخطر في هذا الملف أن تصبح ذات الحرب مجرد أرقام يتم تحديثها يوميا من حيث عدد الضحايا، وبحيث تتحول الحرب إلى مجرد نشاط يومي، تتم متابعة تطوراته في ساعات المساء، بما يعني أن الحرب أصبحت مستدامة دون نهاية أصلا.

حين نقرأ عن أكثر من خمسين ألف شهيد، وعشرات آلاف الشهداء تحت الانقاض، ومئات آلاف الجرحى، غير الذين سيخسرون حياتهم بسبب نقص الرعاية الطبية، وهذا رقم مرعب على صعيد مرضى القلب والسكري والضغط وما يتعلق بالأوبئة، نشعر بفداحة الكارثة، وها نحن ندخل عاما جديدا من الحرب دون عام دراسي جديد للمرة الثانية، في ظل نقص الإمدادات الغذائية والصحية والعلاجية، وانشغال دول العالم بملفاتها، وانفراد إسرائيل بالقطاع والتحكم بعمليات دخول المساعدات ووقفها كليا أو جزئيا، في ظل خراب عام حول القطاع إلى مجرد كومة انقاض.

الأردن على مدى عام حاول التخفيف عن أهل قطاع غزة، ورأينا الشاحنات والتبرعات وعمليات الانزال الجوي والمستشفيات الميدانية الأردنية وغير ذلك، وأقام الأردن شراكات ثنائية مع دول مختلفة  لتعزيز عمليات إيصال المساعدات، وكان من جهود الأردن اللافتة ما تم الإعلان عنه مؤخرا من جهد أردني لتركيب الأطراف الصناعية لابناء القطاع الذي تم بتر أطرافهم بسبب الحرب من خلال مبادرة "استعادة الأمل" التي بدأ الأردن بتنفيذها أخيرا في غزة لدعم مبتوري الأطراف، عبر تركيب أطراف اصطناعية متطورة تمكنهم من استعادة الحركة بشكل سريع، وتوازت هذه الجهود التي بحاجة لتفصيل أيضا مع الجهد السياسي الذي تمثل بالدعوات لوقف الحرب، والضغط بكل الوسائل لتعزيز دخول المساعدات للقطاع، والتحشيد للعمل الجماعي. 

في شهر حزيران الماضي استضاف الأردن أعمال مؤتمر الاستجابة الطارئة الإنسانية لغزة، والذي شهد مشاركة دولية تستهدف تحديد سبل تعزيز استجابة المجتمع الدولي للكارثة الإنسانية في قطاع غزة، وعقد المؤتمر جاء بسبب مناخات تراجع الدعم والمساعدة الدولية لقطاع غزة، وما يرتبط فعليا بالموانع والعراقيل اللوجستية التي تفرضها إسرائيل، من خلال التحكم بدخول المساعدات وبوابات الدخول، وكميات المساعدات، وطريقة توزيعها، وتنوعها أيضا.

لكن الأهم كان في نيويورك يوم أمس الثلاثاء حين أطلق الملك في خطابه في الأمم المتحدة أمام قادة العالم، ووسائل الإعلام مبادرة أردنية لإقامة وفرض بوابة دولية للمساعدات الإنسانية الموجهة لقطاع غزة، ودعوة دول العالم للانضمام إليها، وان تتحد هذه الدول وتتوافق في هذا الجهد الإنساني بعد دعوة الملك، من أجل التخفيف عن الغزيين في هذه المأساة التي يعيشونها، وهي أول مبادرة تطلق في الأمم المتحدة ضمن تصور محدد يتعلق بإغاثة الغزيين بحيث تكون البوابة دولية بما يعنيه ذلك من دور مختلف لدول العالم، تجاه غزة، وآليات التوصيل والإغاثة، بدلا من الحالة القائمة الآن حيث تتراجع المساعدات الإنسانية، وفوق ذلك تتحكم إسرائيل بمعابرها، فيما هذه المبادرة تعني أيضا تجنيب أهل غزة ويلات الحرب وما بعدها.

سبق المبادرة الأردنية بيوم لقاء الملك مع رؤساء وممثلي عدد من المنظمات غير الحكومية المعنية بالاستجابة الإنسانية في قطاع غزة بتنظيم من مؤسسة الوكالة الأميركية للاجئين في الشرق الأدنى-أنيرا، حيث تم التأكيد على أهمية وقف الحرب، وتوفير الحماية للعاملين في الهيئات والمنظمات الإغاثية، وتعزيز علاقات الأردن مع شركاء إقليميين، لتعزيز الاستجابة الإنسانية وحشد الدعم الدولي للتخفيف من معاناة أهل غزة في ظل الأزمة غير المسبوقة، وخاصة مع اقتراب فصل الشتاء، بما يؤشر اليوم أيضا على حاجة القطاع إلى عمل دولي واقليمي.

غزة تقف وحيدة وما بعد الحرب أسوأ من الحرب بما يفرض عملا عربيا وإقليميا ودوليا لإنقاذ حياة أكثر من مليوني فلسطيني دون أن ننسى كل ما يحدث في المنطقة من أزمات، والأردن يحاول قدر استطاعته لمنع تحويل الحرب إلى حرب منسية، لأن النسيان هنا مكلف جدا.

الأردن يحمل ملف غزة في كل مكان، من عمان إلى نيويورك، وما بينهما من مدن.