فراغ حضاري …

 

إبراهيم أبو حويله 

 نحن نعيش حالة من الفراغ الحضاري ، هذا للأسف صحيح ، وهناك مشاريع جاهزة تنجاذب المنطقة وبقوة .

ونحن ما زلنا نبحث هذا شرقي وذاك غربي وهذا مصري وذاك خليجي،  وهذا لا يحيي أمة ، فضلا عن أن يصنع حضارة .

ما زال خطابنا خطاب فردي أو على أقل تقدير على مستوى الجماعة والسعي لتمكين الجماعة وكان تمكينها قيام للدين والأمة. 

ما لم نخرج من خطاب الفردانية إلى خطاب التجميع والبحث في الاسباب المؤدية إلى الفرقة والشتات ومعالجتها ، سنظل أحزابا وجماعات ويخاف بعضنا من البعض .

ولا قيام لحضارة في ظل الخوف ، في حروب الردة  انقسم الناس إلى مسلمين انقياء من شتى القبائل والبقاع ومرتدين. 

عدم نضج الحياة الدستورية في العالم الإسلامي ساهم في بقاء الأمة بدون وعي حقيقي في الواجبات والحقوق وصناعة الإنسان والمساهمة الفاعلة في الحضارة الإنسانية ، وهنا يبحر فينا مالك بن نبي في هذه المفاهيم بشكل عميق ، محللا ومشرحا ومحاولا الوصول إلى العلل والإسباب التي ساهمت بشكل مباشر حتى نصل الى هذا الإنسان الذي نعيش معه اليوم على محور طنجة جاكارتا ، وهنا لا بد من الإشارة بأن اللامبالة التي إصتبغ بها الإنسان كما إشار إلى ذلك الإمام محمد عبده ، هل كانت نتيجة لهذه المعرفة الضحلة بالحقوق الدستورية ، ومدى الأثر والفاعلية التي يجب أن يتصف بها إنسان المنطقة حتى يتحرر من عقده ، ويساهم بشكل بالغ في تحرير أمته ونقلها خطوات إلى الأمام ، كل هذا سيبقى مطروحا .

القياس التاريخي هو قياس مع الفارق ، فلن تستطيع ضبط الحالة والتجربة التي تريد قياسهما معا ، ولن تستطيع أن تضبط النتائج ، ولكنك تسعى لفهم هذه الحالة مع تلك الحالة التي تحاول القياس عليها وقد تنجح وقد لا تنجح . 

الأمم لها أحوالها ، فما يصلح لأمة لا يصلح لأمة أخرى ، ومع الحالة الإسلامية نقف ونحاول الفهم ، وهل كما أشار مالك المشكلة في العالم الإسلامي بدأت مع صفين ، والدفع الحضاري للأمة الإسلامية انتهى هناك ولا أستثنى الوجود المسيحي وغيره من الأديان هنا ، لأن الأمة إستطاعت تشكيل مكون حضاري له صبغة دينية إستطاعت معه الحضارة الإسلامية إستيعابهم وتوجيه القوى المؤثرة لهم لصالحهم أولا ، ولصالح الأمة ثانيا ، فقد كان الوجود المسيحي قبل ذلك تابعا لأمم مجاورة ولم يكن وجودا مستقلا ولا يحقق أهداف ذاتية لمن يحمله ، ولكن المد الإسلامي إستطاع صناعة أمة موحدة كما أشرت بصبغة دينية، وكان للأخر هنا ( شعوب وحضارات وأديان ) كان لهم دور كبير في التاريخ الإسلامي سياسيا وإقتصاديا وحربيا لا مجال لذكره هنا ، وما حدث بعد ذلك من تراجع  هل كان هو نتيجة لضعف القوة الحضارية الكبيرة جدا التي حدثت قبل ذلك ، وما زالت الأمة في تراجع منذ ذلك التاريخ .

الأمم التي إنخرطت في الحضارة الإسلامية كان لها أثر ساهم  في تعزيز ورفد الحضارة الإسلامية بالكثير من العلوم والخبرات والتنظيم ، فالحضارة الإسلامية لم تستطع إختراق الحضارة الغربية مع فتح الأندلس ، وفي أوقات متأخرة مع الفتح العثماني كما هو معلوم، ولكن الأثر الحقيقي على الحضارة الإسلامية كان من الفرس ، على إتفاق وإختلاف بين الباحثين في مدى الأثر وطبيعته والسلبيات والإيجابيات المرتبطة به .

والأثر الإيجابي كان من حيث التنظيم والدواوين وإدارة الدولة ، وطرق العلم والتعلم ونقل المعرفة ، وهناك أثر كبير للعلماء الفرس ومن خلفهم من المناطق على الحضارة الإسلامية ، طبعا هناك جانب سلبي في الشعبويات وإنتشارها والحركات الفكرية والباطنية وغيرها ، وهل يندرج هذا تحت باب التدافع أو تحت باب السلبية المطلقة هذا باب أخر، وحسب ما أؤمن به بأنه لا يوجد خير مطلق و لا شر مطلق والقضية تبقى في مدار السلبيات والإيجابيات وتقديرها ومدى أثرها . 

ووقفت مع معلومة أجدها عجيبة طرحها الدكتور محمد المختار الشنقيطي في ندوة عن كتابه الأزمة الدستورية ، حيث قال أن الأمة الإسلامية عاشت بدون دستور ، من حيث بدأ الرسول صل الله عليه وسلم بوضع تلك الوثيقة الخالدة ، وثيقة المدنية والتي تحدد بوضح صلاحيات وحدود ونقاط الإلتقاء والتعايش بين مكونات المجتمع المدني ومن حولهم وتحديد الحدود للجميع حسب وثيقة تعتبر سابقة لعصرها في تنظيم الدولة المدنية ( مع أن البعض قد يتحفظ على هذا المسمى ، وهو مدار خلاف أصلا ) ، ثم بقيت الأمة الإسلامية بدون دستور إلا أن تم وضع دستور تونس في العام 1861 وبعده تتابعت الدساتير في الأمة . 

هل فعلا لم تحتاج الأمة إلى دستور حيث كانت هناك حركة فتوحات من جهة ، وحركة علمية من جهة ، أم أن ترك الأمر للحدود التي وضعتها الشريعة في التعامل مع الأخر كان كافيا ، وكان هو المرجع في التعامل مع الأخر ( يبقى السؤال مفتوحا ) ، حيث أشار نيثان بروان بأن الدساتير في العالم الإسلام كانت دساتير من ورق ، وأن الأثر الحقيقي للديموقراطية في العالم الإسلامي هو في تعزيز التيار الديني .

 مزيد من الديموقراطية مزيد من الدين ، حسب ما أشار نوح فليدمان ومارتين باحثان من جامعة هارفرد في بحث أخر ، وستبقى العلمانية في العالم الإسلامي مكون مرفوض وغير مقبول ، وبقيت الحياة الدستورية في العالم الإسلامي في مرحلة الجنين كما أشار الباحث الكبير محمد إقبال ، أو إقتربت من الطفولة كما أشار غيره . 

طبعا بعد ذلك إتفق العلماء المسلمون ضمنا على عدم الخروج على الحاكم مهما كانت الظروف ، ورغم ذلك كان هناك مواقف متفرقة من بعض العلماء في الوقوف ضد تجاوزات والظلم من بعض الحكام ودفعوا الثمن طبعا . 

وهنا هل كان هذا الموقف بمجمله صوابا أم جانبه الصواب ، وكما يقال بأن السياق التاريخي محكوم بظروفه ولا نستطيع أن نطبق ما نعرفه اليوم على تلك المواقف التاريخية التي كانت في عقول هؤلاء في تلك التواريخ .

فلا نقول بأن تلك الظروف خاضعة لمعرفة اليوم ولا لإحكام اليوم ، كما أن الثورة الفرنسية ليست خاضعة لديموقراطية الإغريق و أحكام هذا الزمن كما أشار إلى ذلك باحث اخر ، ولكن التاريخ للإستقراء والعبرة .

 وهنا لا بد من الوقوف على اسباب هذا العنف المفرط في التصرف من قبل الساسة ، ولن أقول خلفاء ، وهل التصرف والنتيجة التي توصل إليها الفقهاء تعتبر نتيجة صحيحة ، هذا سؤال سيبقى مطروحا ، يحتاج إلى بحث وإجابة . 

وأقف مع فكرة أخرى هنا ( مع التجرد ولا أبحث هنا عن الحق ومن هي الجهة التي تملكه ) ولكن هل لو نجحت ثورة من هذه الثورات ، كانت الأمة ستعرف الهدوء بعدها ، وهذا سؤال سيبقى مطروحا .

ما لم نخرج بمشروع حضاري ديني يجمع مكونات الأمة واعني الأمة،  مع الحفاظ على الدول حكاما ومكتسبات لن ينخرط في المشروع من تتأثر مصالحه،  بل سيقاومه ويعمل على هدمه .

وهذا ما لا تريد الجماعات الحديثة التي تشكلت تحت عباءة الإسلام فهمه ، فتستعدي الأخر وتشق الصف بدل أن تعمل على توحيده،  وكل ذلك بسبب رئيسي هو سعيها للسلطة ، مع أن هذا ليس من صلب الدعوة وقد يكون مقتلا للطرفين السلطة والجماعات،  وبالتالي يؤخر المشروع النهضوي للأمة. 

وهذا ما يحدث اليوم للأسف فراغ وغياب وعداء،  ولو تغيرت الاولويات لكانت بداية انطلاقة المشروع الأمامي برأيي بدأت منذ زمن .

أستقراء في كتاب الأزمة الدستورية لمحمد مختار الشنقيطي وأخرون …