بين إعلام مبعثر ومزاج رسمي متشظ
مالك العثامنة
هل هناك خطاب إعلامي واضح يعبر عن الدولة وتفكيرها وعقلها السياسي؟
كل ما نراه ونسمعه ونشاهده جهود فردية حثيثة تبرز في الأزمات وتختفي مع أول ارتخاء في الجهاز العصبي للدولة.
وبين الشد العضلي والارتخاء تنتشر الاجتهادات الإعلامية التي تفتقر إلى المعلومة بعمومها لأن المعلومة محصورة ومحجوزة والحصول عليها مرتهن بالحظوة أو مقيدة بقواعد الجلسات المغلقة، وهذا التقييد لا يسمح بأكثر من تسريبات تخضع معالجتها أيضا لجهود واجتهادات فردية.
لا نتحدث هنا عن إعلام حكومي بل إعلام دولة، يعبر عن توجهات الدولة بكل ما فيها. يكون ذخيرة معلوماتية للصحافة التي لم تعد تجد ما تقدمه للمتلقي إلا ما تقرره الأمزجة الرسمية "بكل تشظياتها"، مما ترك المساحات شاسعة ومتاحة في فضاء افتراضي واسع.
هذه ليست مشكلة آنية، بل أزمة حقيقية ومزمنة، تجلت تداعياتها دوما في مختلف الانعطافات والهزات السياسية، والأردن محكوم بجغرافيته السياسية أن يكون دوما في مهب الأزمات، في محيط إقليمي متأزم دوما، والحلول التي تعتمد دوما على منطق "الفزعة" لها تاريخ انتهاء صلاحية في عالم يضج بالدفق المعلوماتي الممنهج والمدروس بأدق تفاصيله.
فلنبدأ بالأشياء البسيطة.. من آخر الأزمات التي نعيشها:
ما معنى أن نحشد كل هؤلاء المتحدثين على الشاشات المحلية لساعات بث حي طويلة والخطاب هو ذاته، باللغة ذاتها مع احترامي لمن يحاول اعتصار أي صيغة جديدة للخروج على الأقل بمحتوى جديد.
التلفزيون الأردني، مؤسسة حكومية عامة فيها كل ما يمكن تخيله من أجهزة تقنية حديثة وفنيين قادرين على اجتراح المعجزات البصرية، لكن المؤسسة الإعلامية العريقة ما تزال متكئة على العراقة التاريخية دون أي تحديث حقيقي في المحتوى والفكرة والأداء.
هذه الشاشة تحديدا في زمن البث ما قبل الرقمي، ولساعات محدودة تنتهي مع منتصف الليل، كانت تقدم نشرات إخبارية بثلاث لغات إضافية غير النشرة الرئيسة بالعربية: الإنجليزية والفرنسية والعبرية. نعم كان لدينا نشرة عبرية موجهة.
كان التواصل الإذاعي عبر النهر، يشمل برنامجا صباحيا مؤقتا على توقيت النبض قبل الساعة من خلال برنامج "رسائل شوق" وبصوت مقدسي دافئ للمرحومة كوثر النشاشيبي، تحمل فيه البرقيات القصيرة بين ضفتي النهر، كان جسرا من أثير بين الضفتين، وكان يحمل كذلك الرسائل السياسية الملغومة في ثنايا البرقيات الموجهة كلغة شيفرة متماهية مع زمانها ذاك.
لقد تغيرت الأدوات وتقدمت، لكننا انكفأنا ولم نتقدم.
ما المانع لو تم تطوير ساعات البث الهوائي اليوم باستضافات تتجاوز الوجوه والعبارات المكررة، استضافات لمحللين حقيقيين لديهم مخزون محترم وجاد من المعرفة ومتصلون مع العالم بمراكزه البحثية والدراسية وصناع القرار، بالمناسبة لدينا في الأردن هؤلاء السيدات والسادة.
ماذا لو استضفنا ضيوفا عربا حتى لو لم نتفق مع توجهاتهم، نحاورهم على الهواء حوارات ذكية ونجادلهم، وضيوفا أجانب بترجمة صوت فورية نساجلهم ونبني تلك الجسور ونوصل الرسائل الذكية بدون تشفير هذه المرة.
هذا عرض لكل الشاشات المحلية لتطوير المحتوى والابتعاد عن محاولات تطوير الخطاب الشعبوي في منافسة عقيمة مع فضائيات تتقن مهارة "الخطاب الشعبوي" وتحريك الأدرينالين في الشرايين.
هذا زمن الثورة الرقمية والدفق المعلوماتي، وليس مفاجئا أن نجد شخصا بكاميرا هاتف ذكي وميكروفون عنق لاسلكي متوفر بالأسواق وخبرة بسيطة على أي تطبيق تحرير فيديو أن يحصد مشاهدات تتجاوز مجموع مشاهدات كل محطاتنا الأردنية مجتمعة، بتكاليف إنتاج صفر تقريبا.
كل ما تحتاجه، محتوى حقيقي وابتكار بسيط للأدوات، لتخرج بإعلام دولة لا يتبعثر في كل هذا الفضاء.