وقائع موت معلن بالبث الحي

{title}
أخبار الأردن -

مالك العثامنة

كانت الحروب دوما مأساة مفجعة لها ضحاياها من كل الأطراف، كان البعيدون عن ساحات المعارك يعرفون حجم الفظائع من مناظر الناجين وأحوالهم. كان الخيال كافيا لإعادة تصوير مشهد انهيار المباني وسقوطها على رؤوس البشر ومشهد الأنقاض يكفي لتخيل الوجع الإنساني في تمسكه برمق أخير للحياة.

أتذكر صورا غير واضحة في الثمانينيات لوقائع مذبحة "صبرا وشاتيلا"، كانت الصور ساكنة ومصمتة لكنها كافية لتخيل اللحظات قبل الصورة وبعدها لتخلق مادة كابوسية لصبي حاول فهم العالم مثل باقي الأطفال في هذا المشرق. لم يتم توثيق مذابح أخرى كثيرة في الحرب اللبنانية فطواها النسيان ( مذبحة الدامور مثلا).

في التسعينات.. تغيرت قواعد اللعبة، بمعنى ادق تغيرت قواعد "الفرجة"، كانت حرب الخليج بعد احتلال العراق للكويت.
جاءت سي أن أن ومراسلها الأشهر حينها "بيتر آرنت" بتقنية جديدة تبث الحرب مباشرة، لكن اللعبة في قواعد تلك الفرجة الجديدة كانت ما تزال بعيدة عن تحويل منظر الدم إلى نكهة صديدية في الحلق، فالصور المبثوثة كانت بمعظمها على خلفية سواد ليلي يغطي الشاشة وبعض أنوار وصليات صاروخية لونها أخضر تمر كشهب.

رومانسية الصحافة حينها حولت المشهد إلى ما يشبه شجرة عيد الميلاد، حيلة لغوية وبلاغية تحمل نقيضها في ربط الموت بالميلاد!
في عصر تكنولوجيا المعلومات والثورة الرقمية، حملت لنا بالصوت والصورة فائقة الجودة ذلك الموت بكل أشكاله حيا وعلى صيغ متعددة يمكن إعادتها حسب الطلب والذوق. تطويع بشع وكريه بدأ بالأفلام التي تفننت بأشكال الموت والقتل ولم ينته ولن ينتهي بإبداعات المقذوفات البصرية في تطويع و "تطبيع" الحس الإنساني لقبول موت الإنسان.
الحروب لم تتوقف، كانت تسير بشكل مواز مع الثورة الرقمية، تطورت الأسلحة وصارت ذكية، بما يتماهى مع لعبة رقمية خلف شاشة، إبادة حي كامل صارت ممكنة لكبسة زر في غرفة شبه معتمة أمام شاشة يقف حولها عسكر مدججون بالأوسمة، يقضون على بشر ويبترون أحلامهم وأمنياتهم بالحياة ثم يعود القتلة بأوسمتهم إلى بيوتهم يعيشون أمنياتهم الشخصية مع عائلاتهم. لم يحدث شيء بالمطلق.. مجرد موت مجاني لبشر أفرزتهم الحروب فضلات تبحث عن دفن جماعي. هكذا يقرر الحس البليد بعد سنوات من تطويعه في اللعبة البصرية. قواعد الفرجة.
رأينا ذلك في بغداد.. ( العامرية كانت من أكبر الفظائع البشرية، ملجأ فقد وظيفته ومعناه ). رأينا ذلك في أفغانستان، وبين القتل والقتل هناك تسلية بصرية بالتعذيب والتفنن بإذلال الكرامة الإنسانية. تطبيع النفس في عملية الإقصاء.( مشاهد سجن أبوغريب مثلا، أو حرب الشيشان وفظائعها حتى لا نحصر الأمثلة).
اليوم، في غزة نقف أمام صندوق الفرجة، ننفعل جميعا "كل في خندقه الذي يريد"، أمام هذا البث الحي والكامل لأول مشروع إبادة يتم نقله في وقائع بث حي ومباشر. ( يمكن إعادة أي مشهد فيه حسب الطلب). 

ستنتهي هذه الحرب، لكنها ستنتهي تحمل بذور مشاريع حروب أكثر تطرفا.
قيل في الروايات، أن الضحية هي الشخصية الوحيدة التي لا تسمع صوت إطلاق الرصاصة التي تقتلها.
في زماننا هذا، زمن الصورة الرقمية الحية، لم يعد ذلك صحيحا. صوت الرصاصة، القذيفة، صوت الموت صار يتم تعليبه في معلبات رقمية تؤرشف وتؤرخ وتوثق حجم التوحش الذي وصل إليه العالم.

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير