رأسمالية هاوية..!
علاء الدين أبو زينة
الرأسمالية نظام معقد وذكيّ للغاية، يلعب على حب البشر المتأصل للامتلاك والتجميع. ويتفاوت الرأسماليون الأفراد، والأنظمة الرأسمالية كمؤسسات، في البراعة والابتكار والقدرة على الربط لتعظيم الربح. وقد تناولت لوحة من الدراما السورية المهمة، «بقعة ضوء»، كيف يمكن أن تعمل رأسمالية ذكية.
تحكي القصة عن عمال مصنع يحتجون مطالبين بزيادة أجورهم بنسبة 20 بالمائة. ويحمل مراقبهم مطلبهم إلى صاحب المصنع، وهو يستعد لمواجهة غضب ساحق. لكن الرأسمالي يرد بابتسامة هادئة، ويوجه لرئيس عماله أغرب أمرٍ يمكن أن يتلقاه: ليس زيادة رواتب العمال فقط، وإنما زيادتها بنسبة 25 بالمائة.
ولا يستطيع رئيس العمال المصدوم سوى أن يسأل رب عمله عن قراره غير المتوقع، ولإضافة 5 بالمائة إضافية إلى مطلب العمال. ويشرح صاحب العمل عن طيب خاطر.
يقول الرأسمالي إن الزيادة في رواتب العمال لن تذهب بالتأكيد إلى الادخار لأن راتب العامل، حتى مع الزيادة، يبقى محدودًا للغاية. فماذا سيفعل بهذه الزيادة؟
ربما يأخذ عائلته في رحلة في نهاية الأسبوع. ولا بد أن يشتري مستلزمات الرحلة، أو يطعم عائلته في مطعم في وجهة الرحلة، أو يجعل أولاده يرتادون مرافق الترفيه والملاهي هناك. ربما يشتري لهم الأشياء التي يحبها الأولاد من «الشيبس» وخلافه من البسطات والمنصات. ربما يشتري بالزيادة كهربائيات. ربما يشتري الملابس. في النهاية سينفق زيادة الراتب في السوق.
حسنًا. يمتلك الرأسمالي صاحب المصنع مجموعة تجارية مزدهرة على ما يبدو. له سلسلة مطاعم ومرافق ترفيه في معظم وجهات الرحلات في البلد. وله مجموعة من البسطات والمنصات التي تبيع ما يحبه الأطفال. وله مصانع للكهربائيات والملابس والأغذية... إلخ.
أين ستذهب إذن نقود زيادة أجور العمال؟ سوف تعود مهما اختلف الطريق إلى خزنة الرأسمالي– مع الأرباح. فإذا كانت الزيادة 50 دينارًا مثلًا، فإنها ستشتري للعامل أشياء كلفت الرأسمالي 30 دينارًا وسيربح الرأسمالي الفرق.
فلنتصور وضعًا مثاليًا يكون فيه رأسماليو البلد (س)- أو عدد مهم منهم- منفتحين على زيادة رواتب عمالهم وموظفيهم وتحسين أوضاعهم حيثما تيسر. أولًا، ينبغي أن يحسّن ذلك الولاء للمؤسسة، ومعه الإنتاج كمًا ونوعًا. ثانيًا، سوف تفيد الزيادة التي منحها الرأسمالي (أ) مبيعات الرأسمالي (ب)، و/أو (ج) و(د)، وسوف تفيد الزيادة التي يقدمها هؤلاء الزملاء لعمالهم مبيعات الرأسمالي (أ). وفي الصورة الأكبر ستعود الزيادات التي دفعها مجموع الرأسماليين إلى جيوب مجموعة الرأسماليين، الذين ضحوا– ظاهريًا- بجزء من أرباحهم لتحسين أوضاع عمالهم وموظفيهم. وستعود مع الأرباح المعنوية والمادية.
إن ما يفعله مثل هذا السلوك الرأسمالي هو تحسين القدرة الشرائية للمواطنين الذين سيشترون بالدخل الإضافي سلعَ وخدماتِ الرأسماليين. وبطبيعة الحال، يعني البيع للرأسمالي ربحًا صافيًا. وسوف تستفيد الدولة من ضرائب المبيعات والدخل– ويفترض أن تحسِّن بالإيرادات الجديدة الخدمات العامة والبنى التحتية. باختصار، سوف تتحرك دورة الاقتصاد ولن يكون أحد خاسرًا.
لا أعرف إذا كان ثمة عيب منهجي في هذه الافتراضات يعرفها علم الاقتصاد. لكنها يمكن، نظريًا، أن تعني تدوير النقود، وتحريك السوق، وإشاعة مناخ إيجابي، بما يعنيه ذلك من تعزيز استقرار النفسية الجمعية والأمن الاجتماعي والرفاه. وينبغي أن يُترجم ذلك إلى درجة من التصالح بين فئات الشعب، وبين المواطن والدولة.
في المقابل، تعني مراكمة الرأسماليين المال على حساب حاجات العمال الفقراء، واعتقاد الرأسمالي بأنه عبقري لأنه «يحلب» عماله إلى أقصى حد، زيادة السخط، وكراهية المؤسسة، وتشجيع الاضطراب، وتأزيم النفسية الاجتماعية الجمعية، والسخط من الدولة. وإذا اجتمع جشع الرأسمالي مع الفساد الرسمي وتحالف السلطة مع الرأسمالي النافذ ضد العامل البائس، فهذه وصفة التوتير السياسي-الاجتماعي الناجم عن الشعور العام بالغبن، وتشجيع العصبية والعنف، وربما التمرد على الدولة واندلاع الاشتباكات على شتى المستويات. وكم دمر التوتر الاجتماعي دولًا واقتصادات ودفع الرأسماليين إلى الإفلاس أو الهرب.
ولأن الرأسمالية في بلادنا هاوية، تعمل في اقتصاد مشوه لا هو رأسمالي ولا اشتراكي– ربما ريعي- فإنها لا ترى إلا من منظور استغلال العمال إلى أقصى حد لتعظيم مراكمة الثروة. و»ما جاع فقير إلا بما مُتِّع به غني». ويشعر العاملون في مؤسساتهم بأنها لا تسندهم وإنما هي في حرب معهم ونقيضهم في المصلحة.
الرأسماليون في العالم الرأسمالي المحترف (مع عدم نسيان المظالم البنيوية للرأسمالية) يتبرعون بجزء من ثرواتهم للجامعات التي درسوا فيها لكي تخرِّج لهم عاملين مؤهلين يشغّلون مشاريعهم. ويتبرعون للمنظمات المدنية، والمؤسسات الخيرية. وينطلقون من إدراك بأن صحة المجتمع واستقراره ستخدم أعمالهم وازدهارهم. وفي كثير من الأحيان، تكون أحوال العمال في البلد المعني رضىً والحمد لله، (انسَ أميركا وفوضاها الطبقية وفكر في الدول الإسكندنافية). وتتمتع الدولة بمناخ نشط اقتصاديًا وآمن اجتماعيًا ومواطنة حقيقية مخدومة جيدًا في الصحة والتعليم والبنى التحتية والاطمئنان على الغد.
هناك، الرأسمالي يربح، والدولة تكسب وتَخدم وتُخدم، والمواطن يرضى، والأوطان تستقر، والكل يعيش بخير.