الأسرة المعوقة

{title}
أخبار الأردن -

حسني عايش

لخص المفكر والمؤرخ الكبير ول ديورنت قصة الحضارة في كتابه المشهور بهذا العنوان بقوله: «تبدأ الحضارة في كوخ الفلاح ولكنها لا تزدهر إلا في المدن». كان يقصد أن الحضارة بدأت بالزراعة واستقرار الإنسان وتحول استقراره نتيجة لها مع غيره في قرية، ومن بين هذه القرى التي نشأت ظهرت المدنية»، فنشأت فيها الحرف والمهن والأعمال والكتابة والقراءة والثقافة والتقنية لخدمة نفسها وقراها. ثم تطورت الحضارة بالثورة الصناعية، وهي تزيد تطوراً بالثورة الرقيمة ثم بالذكاء الاصطناعي. ولكن ديورنت لم يعش ليرى العكس في تطور الحضارة حيث صارت تنتقل من المدنية إلى القرية، ومن الصناعة إلى الزراعة، ومن الاستقرار إلى الحركة والهجرة والفرار.

 

كنت قد دعوت فيما مضى إلى قرينة المدنية وبحيث تصبح الأسرة فيها منتجة كالأسرة في القرية. ولقد تبين لي بعد عدة سنوات من هذه الدعوة أنني كنت مخطئاً، فقد نمت القرية وتطورت وتمدينت في كثير من الأمور. 

لقد ظلت الأسرة في القرية وفي المدينة طيلة التاريخ وإلى عهد قريب منتجة وشبه مستقلة اقتصادياً وإن اختلفت طبيعة الإنتاج فيهما، فقد كانت الأسرة في القرية تتيح ما تأكل، وتشرب من الماء الساقط من السماء المجمع في بئر أو خزان، وتلبس الذي تخيط، وتبادل القرية الفائض من إنتاجها بما تحتاج إليه من المدينة من مواد ومصنوعات. أما الأسرة في المدينة فكانت تعيش على كثير من منتجات القرية، وتصنع لها الأدوات اللازمة لمواصلة إنتاجها. لكن الأسرة الآن – في القرية وفي المدينة- تتخلى عن هذا وذاك بالجاهز من الطعام وللبّاس.. بعدما أفقدتها الصناعة معظم المهارات البيتية التي كانت لازمة للإنتاج وإن لم تكن جميعها. وبخاصة مهارة إنتاج الأطعمة والألبسة. وقد وصل الأمر عند الكثير من الأسر إلى الاعتماد على المطاعم في الأكل، وطلب توصيلها إلى البيت. كانت الأسرة وحتى عهد قريب مدرسة لبناتها وبنينها في المهارات والإنتاج، لكنها الآن تتخلى عن ذلك، وبذلك فقدت استقلالها وصارت معوّقة. 

لا تتقن الأجيال الجديدة من الشباب والشابات من خريجي المدارس والجامعات أياً من مهارات إنتاج الأغذية في البيت فيلجأون إلى بيوت امهاتهم أو إلى جداتهم بين الحين والآخر، ليحصلوا على الوجبة التي أحبوها صغاراً، وعجزوا عن انتاجها كباراً.

لم تقم المدرسة الحديثة ولا الجامعة الأحدث في استعادة المهارات التي فقدتها الأسرة ولنقل التقليدية، وحتى مادة التدبير المنزلي التي كانت سائدة في مدارس البنات لم تعد قائمة أو ذات قيمة. وبعد فقدان الأسرة لمهاراتها تحولّت هذه المهارات إلى اختصاصات تدرس في مراكز او مدارس أو كليات خاصة.

لعل هذه الحالة الجديدة أي حالة الأسرة المعوقة أو غير المنتجة أي تبعيتها للخارج في جميع الأمور، هي مصدر الشكوى الدائمة عند الناس من اطراد ارتفاع الأسعار لأن دخل كثير منها لم يعد قادراً على تلبية متطلباتهم المطلوبة من خارج الأسرة حتى من طعام وشراب. كما صارت القرية والمدينة في الهوا سوا.

وللتخفيف من عبء هذا التطور فإنه يجب الرد عليه باسترجاع الأسرة لمهاراتها المفقودة ولاستقلالها المفقود، وبخاصة في مجال إنتاج أغذيتها ومأكولاتها. ولما كانت الأسرة الحالية عاجزة بنفسها عن ذلك، فقد صار مطلوباً من المدرسة – وكيلتها– تعليم أولادها وبناتها بالعودة القوية إلى التدبير المنزلي في مدارس البنين والبنات على السواء، وبحيث يتخرج كل طالب وطالبة متقناً لعدد من الطبخات أو الأكلات التقليدية والحديثة، ليتخرج. فعندئذ أو بعد إذن سيفرح العروسان بعد الزواج لأنهما قادران على تلبية حاجاتهم الغذائية في البيت لا في الخارج أو من الخارج، وسيتعاونان على ذلك بفرح ومرح، مما يعزز تماسكهما. وسيتوفر جزء من دخلهما الذي كان يضيع على الأكل في المطاعم أو بالطلبات والتوصيل لتلبية حاجات أخرى. 

وأخيراً وبصراحة أقول: كيف تأكل أسرة المقلوبة أو المنسف – مثلاً- من مطعم وهي لا تعرف سلامة موادها وكيف أعدت، وبأيدي من تمت. وما مدى النظافة في المطبخ في هذا المطعم أو ذاك. توجد فضائح هناك من قلة النظافة أو حتى انعدامها. ربما لو دخلتم كثيراً من المطاعم والأفران من مطابخها ومعاجنها لأُغلقت. فما بالكم إذا دخلتم من حماماتها. إذاً لأعلنتم مقاطعتها وتعلمتم ما تحتاجون إليه مما تأكلون وتشربون.. ولكن الشاب/ة الجائع/ة او الأسرة الجائعة التي لا تنتج الأكل في بيتها يلتهمان أو تلتهم أي طعام، وبخاصة بعض المعجنات التي يوضع في داخلها أحياناً ما تقرفه لو رأيته بالعين. ثم يشكوان فيما بعد من علة ما في البطن أو في الصدر مع ان مصدرها قد يكون هذا الطعام أو الشراب. وأخيراً صرنا نجيد الأكل الجاهز ولكن صرنا أيضاً أميين في إنتاجه وإعداده.

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير