لا تذهبوا بعيدا
الدكتور حسني عايش
هم في الغرب يتمسكون بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ويعملونها في بلدانهم ويعتبرونها قدرا لا انفكاك منه. فيها استقرار بعد الضلال، وبها تقدموا بعد انهيار ثم صارت طريقة حياة، ولكنهم في السياسة الخارجية يحيدون عنها عندما تصطدم بمصالحهم. وقد رأى جيلنا كيف أن الغرب وبخاصة أميركا كانت تقف وما تزال إلى جانب الأنظمة الاستبدادية في العالم الثالث، وتدبر الانقلابات ضد الديمقراطيات البازغة فيه، لأن إسقاط الأنظمة الاستبدادية والانقلابية أسهل عليها من إسقاط حكم ديمقراطي قائم حسب الأصول.
ولنا في إسرائيل مثال فهي وإن كانت خطرا مصيريا علينا، إلا أنها شكلت تحديا أيضا. بمعنى مقابلتها بنظم ديموقراطية مثلها أو أفضل. لقد تبنت العصابات اليهودية قبل قيام الدولة الوصول إلى قياداتها بالانتخاب. وعندما تحولت هذه العصابات إلى دولة تبنت المنهج نفسه، وصارت العملية الديمقراطية فيها (ولكن العنصرية أو الابارثيدية) هي طريقة الحياة والبقاء. لم تحد عنها ولم تتوقف عن ممارستها مرة حتى إبان فترات التوتر والحروب مع الدول العربية، التي لم تكن تفكر بتحدي إسرائيل بها. والقاء القبض عليها منحرفة عنها بالعنصرية أو الأبارثيدية. أي تحديها بمنهجها ودينها وقيمها. لقد عايش جيلنا تاريخ تلك المرحلة منذ سنة 1948 إلى اليوم، ورأى كيف كانت إسرائيل تنتصر على الدول العربية «اللا-ديمقراطية» في كل مرة.
وتأتي حرب الإبادة الإسرائيلية الأميركية الأوروبية في قطاع غزة لتجعلنا نقف وجها لوجه أمام الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في الغرب الذي ينصر إسرائيل سياسيا ودبلوماسيا واقتصاديا وعسكريا وإعلاميا ضد الشعب الفلسطيني ممثلا بقطاع غزة. وبدلا من انتقاد أنفسنا على تقصيرنا فيها ولومنا عليها لأننا لم نواجه التحدي الإسرائيلي الديمقراطي بمثله وأفضل لننتصر عليه، سارعنا إلى شجب الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في الغرب، وكأننا نعلن الكفر بها ونفضل الاستبداد والانقلابات عليها.
نعم، يجب شجب سياسة الغرب الخارجية والازدواجية، ويجب أن نتصدى له بها بحيث تتوقف عن تأييد إسرائيل في تصفية قطاع غزة، ويجب أن نشكمه بقيمه، ولكننا يجب أن لا نتراجع عن سعينا إلى نظام حياة يقوم على الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وإن كان بالإمكان التفوق عليهم فيها. هذا هو التحدي. كما يجدر بنا تقدير موقف الشعوب في الغرب التي تتظاهر بقوة وأوسع وأكثر من شعوب عربية ومسلمة، ضد إسرائيل لانتهاكها لها.
وعلينا في الوقت نفسه اتباع السياسة الخارجية التي تحمي مصالحنا، فقد نقف مع الصين في تايوان، أو مع أذربيجان في كراباخ، أو مع اليونان في تركيا، أو العكس، وهكذا.
إن اسرائيل عصية على أي ضغط أو تدخلات للغرب للانصياع إلى اتخاذ قرار أو إجراء معين يصطدم بالديمقراطية فيها، إذ يعتذر الرئيس الإسرائيلي أو رئيس حكومة إسرائيل عن الاستجابة لهما لأن «الكنيست» لا يوافق على ذلك، فيعود الضاغط أو المتدخل أدراجه. أما في بلاد العروبة والإسلام حيث جميع القرارات بيد الرئيس، فإنه يوافق أو لا يوافق رأسا دون الرجوع إلى البرلمان إن كان موجودا، أو إلى الشعب إن كان غائبا.
بغياب الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان من أي بلد يسهل على الغير انتقاده وربما يفتح الباب للتدخل في شؤونه. وكلما كان الحكم استبداديا كان نقده أسهل، وسقوطه أو إسقاطه أسرع.
لقد استغلت إسرائيل وضع الدول العربية والإسلامية المعادي للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان لتشويه سمعتها بمقارنتها بها وانظروا أين نحن الآن واحكموا. لقد وصف ايهود باراك رئيس حكومة إسرائيل الأسبق إسرائيل مقارنة بالأنظمة العربية والإسلامية بفيلا في غابة، إلى أن بينت همجية إسرائيل في غزة أنها العكس: غابة في فيلا تعج بالوحوش الكاسرة التي تلتهم الأطفال.
ستظل إسرائيل مسرورة جدا لغياب الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان من النظام العربي والإسلامي وسوف تحاول تعطيل أي مسيرة حقيقية نحو تبنيها.