الشاي والقهوة بطريقة أبي
إبراهيم غرايبة
عاودتني رغبة في العودة إلى تحضير الشاي بطريقة أبي، والتي تخليت عنها منذ بدأت استخدام شاي "الميداليات". والواقع أنني خفضت كثيرا شرب الشاي، بعدما كنت لا أكاد استغني عنه. وقد بدأت التقليل مضطرا، لأني لم أكن أحصل على الشاي خارج البيت بالمواصفات التي تعودت عليها، ثم نسيته. لكن البديل كان القهوة بكميات كبيرة يصعب احتمالها، وميزة الشاي أنه يمكن تناول كميات أكبر بتأثير أقل مما للقهوة.
ما يزال ممكنا، بالطبع، الحصول على شاي جيد بطريقة التحضير السريعة؛ إذا أمكن الحصول على ماء جيد، وأنواع جيدة من الشاي. لكن تبقى طريقة تحضيره التقليدية -على بطئها وعدم ملاءمتها للمكاتب، فهي لا تصلح إلا في البيوت وفي الأمسيات- هي الأفضل للحصول على شاي بمزايا وأسرار جميلة وعظيمة؛ غلي الماء، ونقع الشاي مستقلا في كوب ماء ساخن، وعندما يغلي الماء يضاف كوب الشاي المنقوع إلى الماء بعد وقف التسخين، أي لا يغلى الشاي مع الماء. ثم "يكمر" الإبريق بقماش كثيف؛ بشكير ثقيل مثلا أو غطاء قماشي كثيف معد خصيصا لحفظ إبريق الشاي لمدة خمس دقائق.
عدلت في طريقة أبي مسألتين تعلمتهما من الصديق منذر الزميلي أيام الجامعة: استخدام ميدالية ذات كرة معدنية مخرمة يوضع فيها الشاي، واستخدام شاي "إيرل جري" بدلا من الأنواع الأخرى. كما أنني بدأت أشربه من دون سكر، وليس بسكر قليل، كما علمنا أبي.
وكان أبي يحضر القهوة السادة بطريقة مميزة وخاصة (ربما)، وبطقوس ورموز كثيرة ومعقدة، ربما لا أستطيع الإحاطة بها. كان أخي عامر أكثر مني اهتماما وحفاوة بها، ولعله يكتب عنها بتفصيل أفضل مني. إذ كان يستخدم طاقما من الدلال والأدوات؛ المحماس والمهباش والظبية، ويعتقد أن القهوة لا تطيب إلا إذا حُضرت على الحطب، ويفضل أنواعا من الحطب على غيرها. كما يعتقد أن "الترموس" يفسد القهوة والشاي أيضا.
وكان يحمّص القهوة بـ"المحماسة" ثم يدقها بالمهباش. ولكن الأكثر خصوصية وحميمية هي القصص والمواصفات والطقوس التي يحتفي بها. تعلمت من أبي حب القهوة السادة وتقديسها، ولكني لم أحضرها في البيت ولم أعد أشربها على نحو مقصود، لأني لا أكاد أستسيغ قهوة إلا قهوة أبي أو إذا كانت تشبهها. وظللت أعتقد أنه لا يجوز إعداد القهوة إلا بالطريقة والطقوس التي يتبعها أبي، وهي تبدو صعبة ومرهقة وبخاصة في المدينة. ولكني في هذه اللحظة أسائل نفسي: لماذا لا أحضر عدة القهوة، وأحضّرها بطريقة أبي؟ يمكن التنازل عن الحطب، ولا بأس بالترموس يا أبي!.
كنت قد كتبت في "الغد" في 16 أيار (مايو) 2008 مقالا بعنوان "الشاي والقهوة أسلوب حياة"؛ عرضت فيه جوانب لم أتطرق إليها اليوم، على أهميتها في الموضوع.
رغم سعة انتشار الشاي لدينا فإنه مايزال ينظر إليه مشروبا ساخنا مع الطعام أو للسمر والمجالس أو للاستعانة به في العمل والتسلية، ولكن القهوة تمثل منظومة من الرموز والثقافة وأسلوب الحياة وتقاليدها، فترتبط بها معظم عاداتنا وافكارنا، وتعبر عن جملة من الثقافات والالتزامات، في الصلح والتفاوض والخطبة والعلاقات الاجتماعية والرموز الثقافية والعقائدية، شرب القهوة يعتبر صلحا وقبولا، وعدم شربها يعتبر رفضا أو إهانة أو تهديدا، وهي بذاتها ترمز إلى فكرة جامعة للناس، “وحياة الوالمة” يقسم بها المتحدث لتأكيد صدق موقفه، وهي هنا “والمة” تعبيرا عن أنها جاهزة دائما للضيافة والمشاركة، “وحياة قهوة أجاويد الله” فلا جود ولا كرم إلا بالقهوة، والكرم من الله فالأجاويد هم رسل الله في المجتمع والحياة “أجاويد الله” وكأن القهوة مشروب إلهي منحه الله ليشربه الناس التزاما بالكرم والتسامح والتضامن.
وفي تقديم القهوة ثمة جملة من التقاليد والأعمال التي تعبر عن ترقية أسلوب الحياة وتحسينه، فيجب أن تكون ساخنة وطازجة، فالقهوة المبيتة والمسربة، لا يجوز تقديمها، ويجب أن تظل ساخنة بجوار النار، حتى الترموس لا يصلح لها لأنه وان احتفظ بها ساخنة فإنه يذهب بنضجها وطزاجتها، ويجب ان تقدم بفنجان نظيف وجميل وغير مكسور، ويجب أن تكون القهوة من نوعية ممتازة، وأن تخزن بطريقة صحيحة، حتى لا يتغير طعمها فتتحول إلى “محمضة”، ويجب أن تعد على وقود مناسب يمنحها طعما ونكهة إضافية يلاحظه المتذوقون، ويجب ألا يحمص منها الا بمقدار الحاجة، وتحمص بطريقة مناسبة ووقت ملائم لا يحرقها، وتعرض للنار بتوازن سليم، ثم تدق بالمهباش وتخلط بكميات وافرة من الهيل، وزيادة الهيل تعبير عن الكرم والحفاوة والمزاج الراقي ونقصه يعني العكس بالتأكيد، ثم هي أولا وأخيرا شراب القادة والكرام، فمن كانت “قهوته لا تنشرب” يعني وضاعته وأنه ليس جديرا بالقهوة.
وارتبطت بالقهوة أعمال السهر الديني والصوفي فصارت مشروبا دينيا، ثم كانت القهوة “الشاذلية” نسبة إلى الطريقة الصوفية الشاذلية أفضل وارقى أنواع القهوة.
عرفت “القهوة التركية” بهذا الاسم على يد الأوروبيين وتحديدا الطليان من مدينة البندقية والألمان والذين عرفوا الأتراك عن طريق التجارة والحروب، وافتتحت المقاهي التي تقدمها في اواخر القرن السابع عشر، وكانت ترمز لدى الأوروبيين في ذلك الوقت على إرادة النهضة والنصر لأن الجيوش التركية المنتصرة كان جنودها وقادتها يشربون القهوة في ليالي الحروب والتنقل والسفر وكأنها ترمز إلى النصر والتفوق، في الوقت الذي كانت الشعوب الأوروبية تخصص معظم أراضيها لزراعة الشعير وتحضير “الجعة”.
ثم امتدت إلى القهوة عمليات الثقافة والسلوك والتطوير أيضا حتى أنها اليوم تمثل المشروب الأول في العالم، وترتبط بها عمليات اقتصادية وتجارية وتصنيعها بمئات البلايين.
ولكن الشاي يمثل في الصين واليابان المنظومة الثقافية والدينية التي تمثلها القهوة، فالشاي منذ أكثر من خمسة آلاف سنة يرتبط بالطقوس والممارسات الكونفوشيوسية والبوذية القائمة على التأمل والإصغاء العميق، ومن أجمل قصائد وقصص التأمل “الزن” عندما تجمع الناس حول ناسك مر بالمدينة يطلبون منه الحكمة والنصيحة، وعندما صمت الناس وانتظروا طويلا قال بهدوء وبداهة “تغلي الماء/ تنقع الشاي/ تشربه/ هذا ما تحتاج لمعرفته” ثم مضى إلى الجبل.
ومازال الشاي في اليابان يحضر ويقدم بطريقة تحتاج إلى تعليم طويل توفره مدراس خاصة بالشاي، وتخصص له أجزاء خاصة من البيت والحديقة، ويشرب بالطريقة التي يمارس بها البوذيون الصلاة والصمت، وكأنه شراب مقدس وكأن شربه صلاة، مثلما يشرب الحجاج ماء زمزم على سبيل المثال.