التعليم في عصر كوفيد وبعده
وليد المعاني
أصدرت منظمة الصحة العالمية في الحادي عشر من آذار (مارس) 2020، بيانا أعلنت فيه أن وباء كوفيد- 19 انتشر في العالم. كان ذلك عندما لم يكن عدد الحالات يتجاوز 118 ألفا، وعدد الدول المتأثرة لم يتجاوز 114، لكن في نهاية العام، وصل عدد الحالات لأكثر من 30 مليونا، وتجاوزت الوفيات حدود المليون.
وحسب آخر الاحصاءات في كانون الثاني (فبراير) العام الحالي، بلغ عدد الاصابات 668 مليونا، وعدد الوفيات أكثر من 6 ملايين، وشاهد العالم عبر شاشات التلفزيون كيف كان الناس يتساقطون صرعى في غرف العناية الحثيثة المكتظة وأروقة المستشفيات التي ناءت بأحمالها، وكيف دخل العالم في تجربة مجهولة، لم يشاهدها أو يشاهد مثلها، الا من كان عمره فوق مائة عام، وحتى هؤلاء، كانوا يتحدثون عن عالم آخر بمعطيات أخرى.
كانت قد ضربت العالم في سنين خلت أوبئة كثيرة، أثرت على حياة الناس وقتلت الكثيرين منهم، ولكن وسائل الإعلام والتواصل لم تكن من الوفرة كما هي الآن، لذلك كان انتقال الأخبار عنها والمعلومات المتوافرة قليلة، فلا توجد تقارير مفصلة عما حدث بالنسبة للتعليم في تلك الأزمنة الغابرة، ولكننا بالقطع نعلم تماما ماذا حدث في وقتنا الحاضر.
لم نكن مستعدين عندما ضرب كوفيد العالم في 2020، ولم تكن الدول مستعدة لحدوث وباء كهذا، ولم تكن المؤسسات التعليمية والمؤسسات الصحية على قدر من الاهلية للتعامل معه، بل أكثر من ذلك، لم تكن تعرف هذه المؤسسات كيف تتعامل مع هذا الوباء.
كانت المؤسسات التعليمية، أكان على مستوى التعليم العام أو الجامعي، تدرك بأنها في وقت ما، يجب عليها أن تتماشى مع العصر، وتحويل طرق تدريسها ومناهجها إلى التكنولوجيا، لكن هذا التحول كان بطيئا، وأحيانا لم يكن موجودا على الإطلاق.
أدى هذا الأمر، أي غياب الأدوات اللازمة للتعامل مع حالة طارئة، لحالة من الفوضى، ما نتج عنه تخبط المؤسسات التعليمية في معرفة ما يجب عليها فعله، وكيف تتلافي العواقب وهي لم تعرف بعدُ ما ستكون.
كان التعليم دوما أهم أعمدة تقدم الدول، لذلك كان هو الأساس في نموها الاقتصادي، ولكن حدوث الوباء أدى لتحديات في التعليم نفسه، وفي المناهج وقدرة الطلبة على الوصول لمدارسهم وجامعاتهم.
وكما ورد في تقرير منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في 2020، بأن 87 % من طلاب العالم، تأثروا بإغلاق المدارس، أي أكثر من مليار ونصف من الطلبة في 951 دولة، تأثروا بهذا الوباء وبإغلاق المدارس.
كان كل هذا بسبب رغبة الحكومات في العالم بالحد من انتشار هذا الوباء اللعين. وكانت هناك دول قادرة على احتمال الإغلاقات، وأخرى لديها استعدادات وتكنولوجيا أكثر من غيرها، ودول لديها من الاموال ما يكفي لتغطية حاجات الناس، ولكن الغالبية الكبرى من شعوب الأرض، لم تكن تملك تلك الرفاهية، فقلت الأموال بين أيدي الناس وانغلقوا في منازلهم، وانقطعوا عن مصادر رزقهم، وانحشر الطلبة في بيوتهم ومضاربهم يندبون حظوظهم، منتظيرن فرجا قريبا مقبلا.
كان هذا التأثير شديدا جدا في الدول الفقيرة وحتى متوسطة الدخل، فتلك الدول كانت في الأساس تعاني من عدم وصول التكنولوجيا لكثير من ربوعها، وتعاني كثيرا من عدم توافر الأساتذة في المباحث كافة.
كانت عملية نشر الإنترنت في تلك الدول تسير ببطء شديد، وتغيب أحيانا عن كثير من المناطق التي كان سكانها يعيشون منعزلين عن العالم الافتراضي، فكان التأثير عليهم شديدا وكبيرا، حتى عندما وفرت الدول تلك التكنولوجيا، لم تستطع الوصول لهؤلاء، وعندما وصلتهم، لم يكونوا قادرين على دفع كلفة هذه التكنولوجيا.
أثر بقاء الأطفال الصغار والكبار في بيوتهم على العائلات اقتصاديا، إذ اضطرت الكثير من الأمهات لترك أعمالهن، أو أخذ اجازات ممتدة لرعاية الأطفال في المنازل، والاشراف على تعليمهم، وتفاقم الوضع عندما طبقت الاغلاقات الممتدة، بحيث انقطعت سبل الرزق عند الكثيرين.
كان التربويون مقتنعين دوما بأن الأطفال قادرون على التعلم مبكرا، لذلك تمكنوا من اقناع السلطات في معظم دول العالم، بأن سن الست سنوات المشروط لدخول المدرسة متأخر بعض الشيء، لذا وجب الحاقهم قبل ذلك. كانت الدساتير العالمية تحدد سنوات ما يسمى بالتعليم الإلزامي، ولم يكن هؤلاء الأطفال ممن تنطبق عليهم التعريفات، لهذا السبب بدأت مؤسسات خاصة بتطبيق ما نادى به التربويون وطبقوه في مدارس خاصة، الى أن أدركت الحكومات، ضرورة البدء بمرحلة التعلم مبكرا، فبدأ الحديث عما قبل المدرسة وعن رياض الأطفال، وقد عزز هذا الأمر خروج الأمهات للعمل في ظل أوضاع اقتصادية ملحة.
كان هؤلاء الأطفال أكثر فئات المجتمع معاناة خلال الجائحة، فبقوا في منازلهم. لا رمل يدخل بين اصابعهم ليعرفوا الناعم من الخشن، ولا ألوان تصبغ أصابعهم فيعرفون الأصفر من الأحمر، ولا كرات قدم تطفو على الماء، ولا سمك يسبح فنقلده. لم يلتقوا بأقرانهم، فلم تتطور لغتهم ولا مفرداتهم، وأصبحوا فرديين لا يشاركون ولا يعرفون مبدأ الفريق، وأصبحوا انطوائيين ينتابهم الخجل عند لقاء الغريب، حتى لو كان طفلا مثلهم.
إن اتصلت اليوم بمراكز تأهيل النطق، فستجد الأماكن محجوزة لستة شهور، وإن أخذت طفلك لمدرسة ليلتحق بروضة الأطفال، فلن يجتاز مرحلة التقييم ولن يقبل، وأصبحت مراكز مرض التوحد، تعاني من مشكلة التشخيص والتفريق بين المريض الحقيقي ومن تأخر تطوره لعدم وجود المحفزات.
تقول التقارير العلمية الصادرة عن الكثير من مؤسسات البحث والتربويين، إن هؤلاء متأخرون عن أقرانهم بنحو العامين، وهو عمر الجائحة. ويحتاجون لجهود مضاعفة ليلتحقوا بأقرانهم على المدى القريب، وكننا لا نعلم ما هو التأثير على المدى الطويل، وكفيل بكشف ذلك، وهنا أود القول إن ما يعرف بكوفيد الممتد والمؤثر على الصحة لسنوات، قد يكون فعل الشيء نفسه بالنسبة للتطور والتعلم.
فإن نظرنا للطلبة الأكبر سنا وفي الصفوف المتقدمة، هناك فجوة تعليمية معرفية لا يمكن، أو من الصعب علاجها لاحقا. هذه الفجوة المسماة بـ”الفاقد التعليمي”، لا يمكن تعويض محتواها في وقت غير الذي كان معدا لها في المنهاج الذي نفترض بأن المعلومة فيه، تبنى على ما سبقها، وبالتالي فقد فات الوقت الآن على العودة لشرح ما مضى.
لذلك يجب أن نمضي وقتا أطول في الصفوف المتقدمة، ونشرح أكثر ونعود للخلف قليلا لشرح المفاهيم التي فاتت، ونكلف الطلبة ببذل مزيد من الجهد لتعلم ما فات. لا يجوز أن نأخذ وقت الاجازات والراحة التي ينتظرها الطلبة وأهليهم، ونعود لخلق مدرسة ممتدة طوال السنة بهدف التعويض.
أن الحديث عن أن التعليم حق للجميع تم اختباره في الجائحة اختبارا حقيقيا، لنجد أن هذا المبدأ الجليل تداعى تحت وطأتها. فكيف يمكن تحقيق ذلك في ظروف الجائحة في دولة غير متقدمة تكنولوجيا أو فقيرة اقتصاديا، إن كان الحل هو استخدام التكنولوجيا مرتفعة الثمن في العملية التربوية؟.
ثبت في الجائحة، أن المدارس الخاصة كانت أقدر على سرعة التكيف مع متطلبات الظرف، فأغلبها موجود في المدن الكبرى المغطاة، بشبكات الانترنت بصورة واسعة، وبها طلبة اعتادوا التعامل مع الأجهزة الذكية، بعكس طلبة المدارس الحكومية التي يوجد الكثير منها في مناطق لم تصلها شبكات الانترنت وأطفالها وطلبتها لم يختبروا الأجهزة الذكية ويألفوها، فازداد الفارق الاجتماعي الاقتصادي، ليشمل فارقا تعليميا يتعارض مع مبدأ حق الجميع في تعليم متساو.
وعلى الرغم من ذلك، فإن بعض المدارس الخاصة وجدت المبرر لعدم دفع كامل رواتب المعلمين فيها، ما داموا غير موجودين فيها وما دام العبء الذي يتحملونه قليلا، وهو أمر مشين.
لجأت بعض الدول لأساليب تعليم عفا عليها الزمان، فعاد التلفزيون التعليمي للظهور مرة أخرى، وهو أسلوب تلقيني غير تفاعلي لا يشبه من قريب أو بعيد الوجود في الغرفة الصفية. وكانت الامتحانات التقييمية غير عادلة، لأنها جرت في الكثير من الدول على منصات غير مراقبة، تدخل فيها آخرون غير الطلبة. ويمكن القول دون شك، إن ما استعمل من أساليب التعلم عن بعد بصورة غير علمية ومدروسة، بحيث يكون تفاعليا، لم يكن الا أسلوبا آخر من أساليب التلقين التي حاول التربويون الجادون التخلص منها منذ عشرات السنين، ولكنها ما تزال تسيطر على المشهد التعليمي بكامله.
لم تكن هناك مسطرة واحدة يقاس عليها في التعامل مع الجائحة في قضايا التعليمين العام والجامعي، ولا حتى في الحياة العامة للناس، فتشددت دول وتراخت أخرى، أغلقت بعض معاهدها وابقت الأخرى مفتوحة.
لم تكن هناك جهة واحدة قوية متأكدة، تقترح ما هو الأنسب، فترك الأمر للاجتهادات، وفي النهاية هناك من أخطأ وهناك من أصاب. فما طبق في دولة بدا غريبا في دولة أخرى، وفي حين بدت بعض المدن كمدن أشباح، استمرت أخرى هي ومقاهي شوارعها بالعمل كأن شيئا لم يكن.
لم يكن حال الجامعات بأحسن من حال المدارس، بل كان أسوأ في الكثير من التخصصات التي كانت تقتضي الوجود في المستشفيات والمختبرات والمعامل والملاعب. فكيف يمكن تعليم الطب من دون مستشفى وتعليم الهندسة، دون ورشة كبيرة وتعليم العلوم دون مختبرات. لا بل كيف يمكن تعليم التربية دون مدارس نموذجية وكيف يمكن تعليم التربية الرياضية دون ملاعب؟ لذلك فإن لدي اعتقاد جازم بأن مستوى من تخرج في جامعاتنا ممن عاشوا الجائحة، سيكون أقل من مستوى زملائهم ممن تخرجوا قبلهم، أو سيتخرجون بعدهم.
يجب أن تكون لدينا منصاتنا التعليمية الخاصة بنا، التي طورناها بناء على احتياجاتنا وبلغتنا، والا نكون مضطرين لشراء هذه الخدمات من جهات أخرى.. منصات للتعليم العام وأخرى للتعليم الجامعي، كل حسب أهدافه، ويجب أن تكون منصات عامة يستعملها الجميع، فالهدف هم طلاب الوطن بشموليتهم.
أما عن المناهج، فحدث ولا حرج. علينا أن نبدأ الآن باستخدام مناهج الكترونية في جزء من العملية التعليمية التي نقوم بها في مدارسنا وجامعاتنا في الوقت الحاضر، ولنعتبره تدريبا حيا، نطور ونعدل عبره، وفي النهاية، تكون لدينا المناهج الإلكترونية لكل المباحث جاهزة للاستعمال عند الحاجة.
أيضا، فينبغي توفير التمويل الكافي للتعليم عموما وعلى المستويات وفي الأشكال كافة، وعلى الحكومات زيادة الإنفاق عليه وتخصيص موارد كافية لدعم التعليم عن بُعد، وتوفير الأجهزة والمعدات والبرامج التعليمية اللازمة، ويمكن توفير الموارد بالتعاون مع المنظمات الدولية والمجتمع المدني والشركات.
لقد تعلمنا، فلنستخدم ما تعلمناه لتحقيق أهدافنا. أليس هذا ما نعلمه للطلبة؟.