إنجاز من الواقع
مالك العثامنة
كانت زيارتي السابقة للأردن متخمة بالمواعيد النهارية في مجملها، مما وضعني في مأزق التوقيت الحرج وانا في آخر أيام لي قبل المغادرة، أبحث عن وقت مناسب لتجديد جواز سفري الأردني.
في مساء آخر يومين متبقيين لي، نبهني شقيقي إلى أنه قرأ خبرا عن مركز خدمات حكومية عام تم تأسيسه قبل فترة وجيزة في منطقة المقابلين، وأن المركز يعمل حتى منتصف الليل، واقترح علي أن نحزم أمرنا في تلك اللحظة ونزوره.
ما رأيته كان مدهشا أتحدث به حتى اليوم مع معارفي وأصدقائي.
وصلنا المركز الحكومي بحدود الثامنة مساء، المواقف للسيارات متاحة ومنظمة ونظيفة للغاية وخالية من أتاوات خدمة الفاليت، والمركز مبنى جميل يشبه مباني البنوك الراقية بأبواب زجاجية نظيفة وأثاث لطيف بألوان جميلة وهادئة.
دخلت المبنى ليسألني الشاب المهذب في الاستقبال عن نوعية معاملتي ( الخدمات المقدمة متعددة هناك) فأجبته ليعطيني رقما سحبه من آلة بجانبه، وجلست على المقاعد المريحة بجو مريح وهادئ جدا تضطر معه إلى التحدث همسا إن اردت تجاذب الحديث مع أحد.
لم تمض دقائق حتى استدعت الشاشة رقمي إلى أحد المكاتب المرتبة خلفي، بدون حواجز زجاجية ولا كاونتر رخامي، ليستقبلني موظف شاب انتظرت منه ان يعطيني ورقة المعلومات التي اعتدنا ملأها ليطلب مني بدلا من ذلك هويتي وجواز السفر موضع التجديد، ليعطيني بعدها ورقة المعلومات تلك مطبوعا عليها كل المعلومات ناقصة توقيعي لأشهد بصحتها، وقعتها وناولته الورقة ليطلب مني بكل أدب ان أذهب إلى الزاوية المقابلة كي أدفع الرسوم، تذكرت اني لا أحمل المبلغ نقدا، ليخبرني الموظف الأنيق أن كل وسائل الدفع متاحة بما فيها الدفع الإلكتروني بالموبايل!
دفعت الرسوم، وخلال دقائق كان الموظف يعطيني جواز السفر الجديد لأغادر ممتلئا بالدهشة.
طوال المسافة من جنوب عمان إلى شمالها وأنا أفكر بما شهدته وعشته شخصيا من خدمة حكومية أقر وأعترف باعتزاز أني لم ألق مثلها في بلجيكا حيث أعمل وأعيش طوال عشر سنوات.
ما عرفته أن مركز الخدمة بمبنى واحد في جنوب العاصمة يقدم أكثر من سبعين خدمة حكومية في قطاعات الصحة والجمارك والمصدقات والتعليم والعدل والمحاكم وغيرها، هذا كله في مبنى واحد استطاعت الدولة الأردنية فيه ان تستعيد ألقها المؤسساتي من خلال الخدمات الذكية، وربطها بالخدمة الإلكترونية الأكثر إدهاشا: خدمة تطبيق سند.
لكن، وحين وصلت إلى السؤال المشروع والبديهي: لماذا لا يتم تعميم مركز الخدمات الحكومية بمبنى واحد وموظفين معدودين في كل أنحاء المملكة لترشيق خدمات القطاع العام نصل إلى معضلة مفادها أن ترشيق الخدمة الحكومية “المبهر والجميل” سيفضي إلى “تسمين ” البطالة المنتفخة أصلا في الشارع.
لا أدعي امتلاك حلول، لكننا امام معضلة إدارة عامة حقيقية هنا، وربما الحلول ستأخذ وقتا طويلا لتفعيل البنية التحتية للقطاع الخاص مثلا، ليستوعب المهارات الوظيفية إلى جانب المؤسسات الحكومية وبذات امتيازات المنفعة في الضمان والرواتب والأمان الوظيفي مما يتطلب التفكير بإعادة النظر في كثير من التشريعات، الكثير منها ليس بدءا من تشريعات العمل ولا انتهاء بتشريعات الصناعة وتشجيع الاستثمار.
ربما تتوسع المعضلة أكثر حين نفكر في جامعاتنا ومؤسساتنا الأكاديمية التي ما تزال تعكل كماكينات تفريخ بطالة في غياب التخطيط الاستراتيجي الحقيقي لحاجات سوق عمل ضيق ومحدود في مواجهة تخصصات لا تجد مكانها ولن تجده في هذا السوق.
الإصلاح الإداري يحتاج أكثر من عرض تقديمي بشرائح ملونة معروضة على الشاشة، ربما يحتاج متخصصين في الهندسة الاجتماعية والتخطيط وخزانات المعرفة البيروقراطية للخروج ببرامج عمل حقيقية تصلح هذا القطاع كله.