غزة.. معادلة معقدة
سميح المعايطة
منذ أن كان الانقسام الفلسطيني سياسيا بين حماس وفتح وجغرافيا بين غزة والضفة دخلت القضية الفلسطينية مسارا مختلفا، ومع مرور السنوات تجذر الانقسام وأصبحت غزة كيانا له حكومة ومسارا سياسيا وتحالفات وحسابات والضفة حافظت على المسار السياسي لفتح ومعظم فصائل منظمة التحرير، وعلى الأرض لم تعد الأراضي الفلسطينية في الضفة والقطاع حالة واحدة، حتى في أوقات أي عدوان إسرائيلي على أي طرف فإن الطرف الآخر يقف موقف التضامن، مثل أي دولة جارة أو صديقة.
إسرائيل انسحبت من غزة لتتخلص من عبء ثقيل، لكن ربما كان الهدف البعيد ما نعيشه اليوم من تحول غزة إلى كيان منفصل تماما يصعب عودته إلى الارتباط بالضفة فلا حماس قادرة على ضم الضفة لسلطتها ولا فتح قادرة على استعادة غزة لحكمها، وأصبح الانقسام ليس بين تنظيمين فقط بل بين كل التفاصيل غزة والضفة.
ومع مرور الأيام على غزة وخاصة في آخر عدوانين من قبل الاحتلال فإن إسرائيل نجحت عبر أكثر من وسيلة في خلق واقع جديد وهو أن يكون العدوان على غزة مصنفا أنه على الجهاد الإسلامي أي أن حماس لا يتم استهدافها ولا اغتيال قادتها وهي تلتزم الحياد إلا عبر الموقف السياسي، وهذا حدث مرتين حتى الآن، فإسرائيل يمكنها الآن التركيز على فصيل وتحييد الآخرين عسكريا مقابل أن لا يكونوا ضمن قائمة أهداف القصف الإسرائيلي.
الأمر ليس تواطؤا من حماس ضد الجهاد أو العكس لكنها حسابات أي تنظيم حين يكون هو السلطة والحكومة التي تدير أمور الناس ومطلوب منها المحافظة على سير الحياة وتأمين متطلبات الحياة من وقود وعمل ومواد تموينية.. ولهذا فان هذه الحسابات تجعل الهدف تخفيف آثار أي عدوان وعدم تحويله من عملية عسكرية إلى حرب طويلة.
غزة اليوم فيها حماس الحكومة والتنظيم التي لها حلفاء ومرجعيات في الخارج من دول ولها معادلة خاصة مع مصر البوابة الوحيدة لغزة على العالم، ولهذا فمصر هي الطرف الأهم لغزة وهي المعنية بالبحث عن هدنة مع كل عدوان، وأيضا فما يجري في غزة له تأثير مباشر على أمن مصر في سيناء أو مصر عموما.
اما الجهاد فهو تنظيم قديم وعلاقاته مع إيران قديمة جدا واذكر عام 1993 حين زرت ومجموعة من الإعلاميين مخيمات المبعدين في مرج الزهور في جنوب لبنان، ان خيام مبعدي الجهاد كانت تتصدرها صور مرشد الثورة الإيرانية، وهذه العلاقة كانت قبل أن تقترب حماس من إيران وغيرها.
اليوم غزة عبء أمني على إسرائيل لكنها واقع لا يمكن التخلص منه، لهذا تعمد إسرائيل إلى ضربات عسكرية تتحول أحيانا إلى حرب طويلة كل عام لتقليم أضافر المقاومة واضعاف قدراتها من السلاح والقادة العسكريين وليس السياسيين، وأيضا تعمل إسرائيل على تعقيد الوضع الاقتصادي والمعيشي لأهل غزة لإجبار من يحكم غزة وهي حماس على التفكير طويلا قبل أي عمل عسكري ولهذا أصبحت الأمور المعيشية للناس جزءا من حسابات حماس وعاملا مؤثرا عند التفكير في أي رد أو عمل عسكري من غزة، واليوم هنالك عشرات الآلاف من أبناء غزة يدخلون إسرائيل كل يوم للعمل، وأي تغيير في الوضع الطبيعي يقعدهم في بيوتهم فضلا عن متطلبات الحياة والصحة والكهرباء في ظل حصار طويل ووجود منفذ تسيطر عليه إسرائيل لإدخال مواد الحياة الى غزة.
سياسيا غزة حالة لا يمكن أن تستمر عقودا على هذا الحال، والخيارات البديلة ليست سهلة على حماس والجهاد، ولهذا فهم يفضلون فكرة الهدنة التي لا تعني اعترافا سياسيا مباشرا بإسرائيل وليست معاهدة وان كانت في مضمونها اتفاقا عسكريا واقتصاديا، يفضلون الهدنة التي تتجدد بعد كل عدوان ويتم نقضها من قبل إسرائيل دون تردد كل عام، وربما يكون خيار الهدنة الطويلة مفضل لكن إسرائيل تقوم كل عام بضرب أهداف عسكرية وأمنية في غزة، وبالتالي فإن الهدنة الطويلة لا تخدم إسرائيل عسكريا وأمنيا، اما الخيار الذي لا تقبل به حماس اليوم فهو اتفاق سلام مع إسرائيل، وكل تحالفات حماس لا تفتح الباب للتفكير بهذا مع أن حماس اقرت فكرة قبول قيام دولة فلسطينية على حدود 67 سياسيا دون ان تحدد الوسيلة مع أن الأداة السياسية هي التفاوض.
إذا حدثت تقلبات في الإقليم مثل اتفاق سلام بين سورية وإسرائيل سيترك أثره على غزة، لان الاتفاق السوري الإسرائيلي وإن كان يبدو صعبا اليوم إلا أنه ان تم سيكون بموافقة إيران تماما مثل اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل والذي تم التوقيع عليه بموافقة حزب الله وإيران.
لكن غزة التي تعاني من الحصار والعدوان لديها تجربة الضفة واتفاق أوسلو، التي لا تشجع على أي خطوة نحو إسرائيل، لكن مسار القضية الفلسطينية علمنا أن أي فصيل يدخل السياسة ويمارس الحكم تفرض عليه السياسة قانونها وواقعيتها وأن لكل تحالفات خارجية ثمنا في مرحلة ما .لكن غزة ستبقى جغرافيا متخمة بالحياة الشاقة على أهلها وعبء أمني على إسرائيل وملف ثقيل تحمله مصر إلى أن تتغير المعادلة إلى شكل آخر .