أكثر من قرن على بدء النكبة..!
ثلاثة أرباع القرن تمر الآن على ما يُعتبر رسميًا بدء النكبة الفلسطينية. في 14 أيار (مايو) 1948، وقع الصهيوني الإرهابي، ديفيد بن غوريون، ما يُدعى “إعلان استقلال إسرائيل”، مؤذنًا بنشوء الكيان الاستعماري الصهيوني على حساب الشعب الفلسطيني وحقه في التحرر من الاستعمار وإقامة دولته المستقلة في وطنه التاريخي. لكنّ ذلك الإعلان كان في الحقيقة طورًا بارزًا في سياق متصل من النكبة، ربما بدأ يوم إعلان “وعد بلفور” في 2 تشرين الثاني (نوفمبر) 1917– قبل نحو 106 سنوات من الآن.
في ذلك التاريخ، أعلنت بريطانيا رسميًا دعمها لتأسيس “وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين” التي لم تكن نسبة السكان اليهود فيها تزيد على 3 إلى 5 في المائة. وبدأ العمل من تلك اللحظة في صناعة نكبة الشعب الفلسطيني. وعندما بدأ الانتداب البريطاني على فلسطين في العام 1920، كانت الأفكار جاهزة لتحويل مشروع إنشاء الكيان الصهيوني من فكرة إلى واقع. وكان الانتداب في حد ذاته جزءًا أصيلاً من النكبة.
في تلك الفترة، ومثل أي استعمار، فرض الغزاة البريطانيون قيودًا شديدة على حريات الفلسطينيين وحقوقهم السياسية والاقتصادية، وقمعوا جهودهم المشروعة للتخلص من الاستعمار واحتجاجاتهم المحقة ضد الهجرة اليهودية والتوسع الصهيوني في وطنهم. وواجه الثوار الفلسطينيون القوة العسكرية الاستعمارية الغاشمة، وتعرضوا للقتل والسجن وأحكام الإعدام الجائرة. وفي الوقت نفسه، شجعت سلطات الاستعمار الهجرة اليهوية إلى فلسطين وشراء الأراضي وتوفير الأمن والاستقرار للمستوطين اليهود وتأمين مناطق جغرافية لمستعمراتهم. كما سهلت سلطة الانتداب البريطاني وشجعت عمل الوكالة اليهودية، وإنشاء المؤسسات والهياكل الصهيونية، مثل الجمعية الصهيونية وهيئة اليشيف، التي ساهمت في تعزيز المجتمع الصهيوني وهياكله السياسية والاقتصادية. ولا يمكن أن يكون العيش تحت الاستعمار أقل من نكبة، خاصة إذا كان هذا الاستعمار يشرف على تسليم مستعمرته شبه جاهزة لمشروع استعماري إحلالي استيطاني يطمح إلى أن يكون أبديًا.
جاء قرار التقسيم في العام 1947 ليسجل فصلًا آخر في النكبة الفلسطينية، حيث حكمت الهيئة الدولية بأحقية المستعمرين الصهاينة في أكثر من نصف فلسطين التاريخية، بما يعنيه ذلك من تفريغ هذا القسم من السكان العرب والاستيلاء على ممتلكاتهم فيه. وبعد عام تقريبًا كان احتلال الصهاينة لثلاثة أرباع فلسطين التاريخية وطرد سكانها الفلسطينيين ومصادرة ممتلكاتهم. وقد شكل التهجير القسري الجماعي والمجازر في العام 1948 و”إعلان الدولية” انعطافة حادة في أطوار النكبة، لكنه لم يكن وليد الفراغ بقدر ما كان تتويجًا لعمل سابق منهجي للإعداد لهذه اللحظة.
بطبيعة الحال، تواصلت النكبة الفلسطينية بعد 1948 للتعمق فقط في العام 1967 باحتلال الضفة الغربية وغزة، لتصبح فلسطين التاريخية بكاملها في قبضة الاستعمار الصهيوني. وطوال هذا الوقت، عاش الفلسطينيون في الوطن مع تقييد الحركة، ومصادرة الأراضي، وهدم المنازل، وإنشاء المستوطنات، والاعتقالات، وعمليات الإعدام خارج القانون، والتمييز العنصري الكثيف. وعاش الفلسطينيون المهجرون وأجيالهم مع مشاعر الغربة وفقدان الهوية، وحالة اللاوطن بما تعنيه من اللاطبيعية والاختلاف المأساوي عن بقية الشعوب على الكرة الأرضية.
بطبيعة الحال، لا تقتصر نكبة الفلسطيني على الخبرات التي يعيشها شخصيًا. سوف يخبرك أي فلسطيني من أي عمر وفي الوطن أو المنفى بأن نكبته هي هذه القصة كلها. لا شك في أن قيام قوة غاشمة بمنح صك بتمليك وطنك لآخرين من دون امتلاكك القدرة على إيقاف ذلك هو نكبة. ومن المؤكد أن تعرضك للغزو المباشر من قوة استعمارية وحشية تذلك وتستولي على أقدارك نكبة. وكذلك وقوفك مقيدًا بينما يأتي المستعمرون الآخرون الموعودون بأرضك ويستوطنون بلدا تحت إشراف ورعاية سلطات الاستعمار الأولى.
لذلك كله، سيكون من غير الدقيق على الأقل تقرير أن النكبة الفلسطينية حدثت منذ خمسة وسبعين عامًا. لقد حدثت حقًا – إذا استثنينا مصاعب الحقبة العثمانية- مع الاستعمار البريطاني بهدف التمهيد لنشوء الكيان الصهيوني. بل وربما قبل ذلك، مع وعد بلفور في 1917، أو حتى قبله بالمؤتمر الذي عقد بين البريطانيين والصهاينة في 7 شباط (فبراير) 1917، وضم السير مارك سايكس والقيادة الصهيونية. وقادت النقاشات التي تلت ذلك المؤتمر بمشاركة اللورد روتشيلد وحاييم وايزمن إلى صياغة نص “إعلان بلفور” في نهاية المطاف.
تشهد هذه الأيام فصلًا من النكبة المستمرة بالهجوم الوحشي على غزة تحت أنظار صانعي ورعاة النكبة. وما يزال على كل الجهات المتواطئة في بدء وإدامة النكبة تحمل مسؤولياتها والعمل على تصحيح خطئها. وسيكون من شأن ذلك أن يختصر الطريق المؤلم ويقصر أمد المعاناة نحو التحرر الفلسطيني الحتمي بعد إفشال مشروع إلغاء الفلسطينيين وإصرارهم على الوجود برغم كل قوى الشر.