السريالية في فضاء العرب الافتراضي
في خانات التعليقات المفتوحة على المواد المنشورة في المواقع الإخبارية الإلكترونية أو صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي، أجد فيها تسلية وبالوقت نفسه هي قراءة “مسحية” لواقع الحال العربي والعقل العربي عموماً وتعكس “فوضى الحواس” التي يعيشها العقل العربي المعاصر.
يكون الخبر مثلا، كما قرأت في موقع إخباري أوروبي ناطق بـ”العربية”، موضوعه عادي جدا وخفيف ومحايد لا سياسة فيه ولا دين، فالمادة تتحدث عن “طرق علمية متبعة للنوم السليم بلا قلق”، حسب دراسات أجراها معهد علمي.
ما بعد المادة، وفي الأسفل، خانة التعليقات التي تجاوزت المئات والتي بدأت عادية بالتعليق على الموضوع ثم وبعد تعليقات عدة عادية، يضع أحدهم في خانة التعليق دعاية لصفحته على موقع “فيسبوك” التي تحوي أدعية وقراءات دينية.. وطبعا “لك الأجر والثواب إن قمت بفتح صفحته!”، يرد عليه معلق فوراً بالسباب والشتائم، فيرد عليه آخر بشتائم مضادة مستوحياً من اسمه أنه من خارج الملة، وينهي جولة سبابه وشتائمه بالصلاة على النبي وآل البيت، فيرد عليه فوراً معلق جديد بملاحظة أن الصلاة على آل البيت ليست واجبة بل بدعة، فترد فتاة بأن آل البيت واجب الصلاة عليهم فيرد عليها آخر بوجوب الصلاة والتسليم على عليّ وآله أيضاً، لتبدأ موجة ردح جديدة على التعليق الأخير، وترد بعدها تعليقات من شخص عراقي يشتم فيها السنة وصدام حسين معاً، فتنهال عليه الشتائم من القوميين والسلفيين في تحالف غريب ومدهش، ينتهي التحالف فوراً حين يقول أحدهم إن صدام عليه من الله ما يستحق، فتثور ثائرة “الصداميين”، وتبدأ جولة الهجوم على خوارج العصر من السلفيين.
فتاة عادية جداً، تطرح تعليقا يدعو إلى التهدئة، والعودة إلى الموضوع الأصلي للمادة الصحفية المنشورة، وتستخدم أحاديث ومأثورات إسلامية تنبذ الفتنة والنزاع، فيرد عليها متزمت في الدين منتقداً صورتها بلا حجاب، وأنها غير مؤهلة بسفورها أن تستخدم الحديث والدين في كلامها، فتبدأ حرب جديدة وضروس بلا هوادة.
الأكثر بروداً وصفاقة هو ذلك الذي يقتحم ذروة حرب الشتائم بتعليق محتواه أبرد من القطب الجنوبي نفسه، فيعلن عن وصول أول شحنة من مراهم “كذا” المقوية والمفيدة للعرسان! مع رابط لصفحة على موقع “فيسبوك” فيها “كل ما يفيد الأزواج والعرسان”.
ينتهي تعليق المرهم السحري، لتعود المعركة من جديد لكن بصيغة جديدة وثنائية استقطاب جديد يبدأه قومي عربي بالحديث عن العرب وأصولهم من قحطان وعدنان، فيرد أمازيغي أو كردي أو آشوري بتساؤل عن ذنبه التاريخي بهذه السلالات التي اقتحمت جغرافيته وتاريخه، فتبدأ معركة جديدة تجتاح مساحات المشرق العربي ومغربه لا تخلو من سخرية واستهزاء وعنصرية وكل ما يخالف أدنى مبادئ حقوق وكرامة الإنسان.
الأكثر “استفزازاً” يكون صاحب أو صاحبة تعليق لا يحتوي إلا عبارات من “الأدب المستغانمي” عن قصة عشق ممنوع ورابط لمنتدى شعري لا شعر فيه ولا أدب.
بعد نصف ساعة من التجوال بين كل تلك التعليقات ورموز قلوب الحب والأيدي مرفوعة الإبهام والوجوه الضاحكة والغاضبة والمندهشة أعود إلى المادة الصحفية إياها..
كانت تتحدث عن أساليب صحية لنوم سليم وهادئ وبلا قلق، أليس كذلك؟