الاخبار العاجلة
إنتاج جديد لا إعادة تدوير من جديد

إنتاج جديد لا إعادة تدوير من جديد

مالك العثامنة

في مقابلة صحفية محلية الصيف الماضي قال الملك عبدالله الثاني إن “الأحزاب لا تبنى من الأعلى إلى الأسفل، ومن المهم توضيح ذلك، فدور الدولة هو تسهيل عمل الأحزاب وتوفير البيئة التي تشجع العمل الحزبي والمشاركة، ولكن ليس من مهمتها بناء الأحزاب، الذي هو دور المجتمع بأطيافه السياسية والاقتصادية، لتعكس برامجها طموحاته واحتياجاته واتجاهاته”.—انتهى الاقتباس.

نعم، الأحزاب لا تبنى من الأعلى إلى الأسفل، فالأحزاب “بمعناها السليم والصحي” هي التجليات الأنيقة للمطالب على صيغة برامج حكم في مختلف قطاعات الدولة لإدارتها حسب تلك البرامج التي تفوز بثقة الأغلبية في التصويت، وهنا تكون الحالة الديمقراطية متجلية بوضوح، لكن هذا لا يمكن أن يكون إلا في دولة مكتملة المؤسسات، القرارات فيها خاضعة لمنهجيات عامة ومحددة تحكمها قوانين وتضبطها تعليمات لا تخرج عن القوانين، التي هي تشريعات ينتجها مجلس تشريعي حقيقي، الممثلون فيه مشرعون لا مهرجون أو مقدمي خدمات ضيقة تستطيع أي بلدية تقديمها.

الدولة لا تبني الأحزاب، طبعا هذا صحيح، لكن هذا يتطلب دولة مؤسسات متعافية بالدستور والدستور فقط. المؤسسات فيها تعرف حدودها الوظيفية ولا تتجاوزها، والمسؤول فيها موظف خدمة عامة تنفيذي.

الأحزاب في الأصل هي الصيغة السياسية لجماعات المصالح، وتقوم بدورها في وضع برامج يتفق عليها المنتسبون إليها ويرون في تلك البرامج منهجية إدارة وحكم في كل القطاعات، وهذا يعني أن تتوفر بيئة حرية ضمن الدستور والقانون فقط، غير خاضعة للمزاج الأمني، تجعل مجموعة من الناس تتوافق ” أو تتفق” على برامج تنفيذية ملزمة للأحزاب في حال توليها السلطة وحيازتها الأغلبية المطلوبة.

المهمة شاقة جدا، فالدولة منهكة بالترهل الإداري الذي يتطلب “خلع النخب القديمة” وكل مدارسهم المصلحية والمنفعية، وهي تشابكات معقدة من المصالح تحولت تراكميا إلى مؤسسة راسخة من الفساد الإداري المتمكن بخبث من تعطيل أي إصلاح يمس بمكتسباتها “المتوارثة”.

شهر آذار الماضي وقبل يوم من مغادرتي العاصمة الأردنية، شاركت في جلسة مغلقة نظمها مركز دراسات مرموق والعنوان كان عن إيران والسعودية، ومع ذلك لم يستطع مسؤول أسبق “ديناصوري” أن يكبح جماح انفعالاته منتقدا كل العملية الإصلاحية في الأردن ساخرا منها ومن كل الإصلاح والمطالبين به، وهذا المسؤول نفسه كان أحد تفريخات “التحول الديمقراطي” في بداية تسعينيات القرن الماضي.

الحوار والأبواب المفتوحة التي يراها الملك ويطالب بها، يتم استبدالها بحوائط صد تشيدها “قوى الشد العكسي” بخبث ومهارة هندسية واجتهادات فردية في مفاصل الدولة العميقة، وحين يقول الملك إن على الشباب أن لا ينجروا خلف الشعارات الشعبوية، تصبح عملية “تعظيم” تلك الشعبويات هدفا لقوى الشد العكسي لاستخدامها ذريعة لوقف الحوار المطلوب وسد الأبواب التي طالب الملك بفتحها!

الشعبويات تلك، هي فعليا أخطر ما يواجه الشارع الأردني المفتوح على فراغ معلوماتي لا يملأه أحد، فيتسلل منه الشعبويون “بدعم شبحي أو باجتهاد فردي” فيتصاعد الاحتقان، لأن أحدا لا يقدم الإجابات الصحيحة والبسيطة غالبا.

مع رؤية الملك في برنامجه الإصلاحي، لكن أيضا مع ترميم الوعي الأردني لاستعادة الدولة الدستورية ومؤسساتها والتي خطفها “المتكسبون” من النخب التي تمرست بالعمل السياسي “العميق” فاستطاعت أن تطور أدواتها لترسيخ الراهن وتجذيره والوصول بالملك والمؤمنين بالإصلاح إلى حالة اليأس دوما وتكرارا.

الطريق طويلة وممكنة جدا لإعادة بناء ما تهدم في الوعي الجمعي، لكن الأمر يتطلب معاول هدم الزوايا الحادة والجارحة أيضا وإلا انتهينا إلى تراكم مسوخ إضافية يتم ترحيلها لجيل قادم.

 


تنويه.. يسمح الاقتباس وإعادة النشر بشرط ذكر المصدر (صحيفة أخبار الأردن الإلكترونية).