ظلال تاريخية ثقيلة
عام 1936، كان الانتداب البريطاني في فلسطين قد شكل لجنة ملكية رفيعة المستوى برئاسة اللورد بيل لدراسة أصول الصراع بين اليهود والعرب في فلسطين، بعد ما سمته “لندن” حالة الاضطرابات التي نعرفها نحن في تاريخنا بالثورة الفلسطينية الأولى.
في تقرير تفصيلي امتد على مساحة 400 صفحة باللغة الإنجليزية وكان بالنسبة لي قراءة تاريخية لا تبتعد وقائعه كثيرا عن وقائع الزمن الراهن إلا بالتفاصيل والأسماء، فإن مقدمة التقرير في صفحاته الأولى كانت لافتة في تلخيص موجز الصراع تحت عنوان “الخلفية التاريخية”، حيث كتب اللورد بيل ولجنته البريطانية بعد جلسات استماع مكثفة شملت العرب واليهود، أنهم في زيارتهم الاستقصائية وجدوا (شعبين يتقاتلان في حضن دولة واحدة). ويعترف التقرير بالنص أنهم لم يتوقعوا أن تكون الهوة واسعة بين القوميتين وعصية على التجسير، خصوصا في أرض كرسها التاريخ مكان ولادة للديانات الثلاث.
وفي جملة ربما تحمل حيلتها اللغوية “الإنجليزية” تنتهي الفقرة بعبارة ” it is fundamentally a conflict of right with right”. وبتأثير مفردات الحاضر الذي نعيشه فقد ترجمتها فوريا أثناء القراءة إلى “نزاع بين اليمين واليمين” وهذا صحيح إلى حد كبير، لكن الترجمة الحقيقية – في قراءة ثانية أكثر تأملا- كانت ” صراع بين حق وحق”!! وهذه جدلية كبيرة مبنية على مخرج سياسي قائم على تحايلات في اللغة والتاريخ.
في المحصلة، كان هذا التقرير الصادر عام 1936، وقبل إعلان “دولة إسرائيل” باثني عشر عاما قد انتهى إلى استحالة عيش “الهويتين القوميتين” في حضن دولة واحدة، وهذا التقرير فعليا أول طرح لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، أو مفهوم الدولتين! وهو الأساس لقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947 والذي رفضه العرب ووافق عليه اليهود حينها.
كان الموقف اليهودي مؤيدا بغالبيته لقرار التقسيم، إلا قوى اليمين الديني والقومي اليهودي المتشدد وقد تجلى ذلك في تصريحات مناحيم بيغين عبر الراديو بأن شرعية التقسيم باطلة، وأن كل أرض الميعاد والتي تشمل كامل فلسطين الانتدابية (بما في ذلك شرق الأردن) ملك لليهود وستبقى كذلك إلى الأبد!
طبعا كان الموقف العربي “الموحد” رافضا لقرار التقسيم أيضا.
في المحصلة، اليوم، نجد أن “حل الدولتين” ترفضه إسرائيل الممثلة بيمين “بيغين” في نسخه الأكثر تشوها، ومقبول بموقف عربي “غير موحد” وإن خلاصات تقرير اللجنة الملكية البريطانية عام 1936 برئاسة اللورد بيل لا تزال فاعلة وحقيقية.
الأزمة اليوم هي في حضن إسرائيل، بعد كل هذه العقود من التراكمات في الصراع فإن إسرائيل هي التي تواجه كابوس “الدولة الواحدة” كحل أخير يضع التفاهمات المستحيلة بين “شعبين” في حضن مؤسساتها وفي مواجهة المجتمع الدولي.
والحلول “الترحيلية” التي تحاول إسرائيل اجتراحها وابتكارها ليست إلا حواضن “أزمات” في الخداج، ستنمو وتكبر لتصبح إضافات أكثر تعقيدا على الصراع نفسه، وكان آخرها ما يعتقد اليمين “القومي” اليوم أنه الحل بنظرية “تقليص الصراع” والتي لا تزال ترى الفلسطينيين “حالة اقتصادية” لا شعبا له حق تقرير مصيره، تلك الرؤية الإقصائية الفوقية هي التي تخلق “العنف” الذي لا ينتهي، مضافا إليه الرؤية الأكثر تطرفا عند اليمين الديني والذي لا يرى في “الفلسطينيين” أي حالة أصلا ويضع الجميع في مواجهات أكثر عنفا وأكثر اتساعا على مستوى الإقليم وأبعد من حدود نهر الأردن.
العنف مستمر، ويكبر في حضن إسرائيل نفسها، وهي التي ستواجه بالدرجة الأولى كل تلك التبعات في النهاية.
وربما كان الشيء الوحيد الذي يعلمنا إياه التاريخ، أننا مصرون أن لا نتعلم منه.