الفاهوم يكتب: تصنيف شنغهاي… قراءة واقعية لفرص الجامعات الأردنية ومسار تحسين الترتيب
الاستاذ الدكتور أمجد الفاهوم
يُعد تصنيف شنغهاي (Academic Ranking of World Universities) من أكثر التصنيفات صرامة ووزنًا في العالم، لأنه يعتمد على معايير بحثية دقيقة لا تمنح نقاطًا للنشاط الدعائي أو حجم التسجيل الطلابي أو عدد البرامج الأكاديمية. جوهر التصنيف يقوم على إنتاج المعرفة العلمية ذات القيمة العالمية، وعلى الأثر الحقيقي للبحث المنشور في مجالات العلوم الطبيعية والطبية والهندسية والاقتصادية والاجتماعية. ولذلك فإن دخول أي جامعة إلى هذا التصنيف أو تحقيق قفزة فيه لا يرتبط بتحسين واجهات المباني أو زيادة عدد الطلبة، بل يرتبط بتعزيز القدرة على إنتاج بحوث عالية الجودة لديها وزن اقتباسي عالمي، ومنح الطلاب والباحثين بيئة بحثية ناضجة قابلة للنمو.
الجامعات الأردنية تمتلك اليوم فرصة موضوعية للارتقاء في تصنيف شنغهاي إذا استطاعت إعادة توجيه جزء من مواردها نحو البحث العلمي المؤثر، وتعزيز شراكاتها الدولية، وتأهيل كوادرها البحثية، وتطوير معايير الحوافز الداخلية. فالمشهد الأردني شهد خلال العقد الأخير توسعاً في عدد الباحثين، واتساعًا في الاهتمام بالبحث التطبيقي، وظهور مجموعات بحثية حققت حضورًا محترمًا في مجالات الهندسة الطبية، الطاقة، الزراعة، الذكاء الاصطناعي، علوم المواد، والعلوم الاقتصادية. ومع أن هذه النجاحات لم تتراكم بالوتيرة المطلوبة على مستوى الاقتباسات العالمية، إلا أنها تشكل قاعدة يمكن البناء عليها، خصوصًا إذا ما حصلت الجامعات على رؤية بحثية موضعية لا تبحث عن نشر عددي بل عن قيمة وتأثير.
تصنيف شنغهاي يمنح وزنًا كبيرًا إلى خمس ركائز: عدد الباحثين الأكثر استشهادًا عالميًا، وعدد المنشورات في المجلات الأعلى ترتيبًا مثل Nature وScience، وحجم الاقتباسات العلمية، والجوائز الدولية الكبرى، وترتيب الأداء البحثي العام للجامعة مقارنة بالمؤسسات النظيرة. من هنا، يصبح تحسين موقع الجامعات الأردنية مرهونًا بقدرتها على تجويد نوعية البحث لا تكثيف كميته، وبناء منظومة دعم تسمح للباحثين بإجراء أبحاث متقدمة، وجلب تمويل خارجي، والنشر في مجلات من الدرجة الأولى ذات معامل تأثير مرتفع. ويتطلب ذلك عقلية بحثية تتبنى الاستدامة لا العشوائية، وترى في البحث العلمي مسارًا استراتيجياً لا نشاطًا موسمياً.
العنصر الأكثر حسماً هو تكوين كتل بحثية متخصصة ذات إنتاج تراكمي في موضوعات محددة. فالنجاح في شنغهاي لا يتحقق بوجود باحثين متفرقين ينشرون بشكل فردي، بل يتحقق حين تنجح الجامعة في خلق مجموعات متجانسة تتشارك المختبر والتمويل والبنية والمنهجية، وتنتج سلسلة من البحوث القابلة للاقتباس، وتستطيع أن تبني سمعة موضوعية في مجال محدد. هذا ما فعلته جامعات شرق آسيا، إذ لم تتنافس على حجم الجامعة، بل على قوة مجموعاتها البحثية، حتى بات لكل جامعة هوية بحثية واضحة.
وتبرز الفرصة الثانية عبر الشراكات الدولية مع جامعات مرموقة، بما يسمح بالنشر المشترك، وتبادل الباحثين، واستخدام مختبرات ذات معايير عالمية. فالنشر المشترك مع باحثين ذوي تأثير يساعد الجامعات الأردنية على رفع معامل الاقتباس وتحسين جودة البيانات المرتبطة بها، مع المحافظة على أصالة الإنتاج العلمي المحلي.
أما الفرصة الثالثة فتقوم على بناء حوافز داخلية حقيقية للباحثين تقوم على مكافآت النشر عالي الجودة، وليس النشر المتكرر. ومن المهم أن يترافق ذلك مع سياسات جامعية تسمح بتخفيف العبء التدريسي عن الباحثين المنتجين، وتوفير منح تنافسية، وتمويل للمشاريع الحيوية، ودعم مختبري قادر على إنتاج بيانات رصينة.
إن تحسين ترتيب الجامعات الأردنية في شنغهاي ليس حلمًا بعيدًا بل مشروع قابل للتحقق إذا أعيد توجيه البوصلة نحو التأثير البحثي لا التصنيف الدعائي. فالتجارب الناجحة في تركيا وماليزيا وسنغافورة تثبت أن القفزات النوعية تبدأ من قرار إستراتيجي واضح، ومن بيئة مؤسسية تسمح للباحث بأن يعمل بعمق، وينشر بجودة، ويتنافس عالميًا. وحين تتوفر هذه المنظومة يصبح التصنيف نتيجة طبيعية لتراكم المعرفة، وليس هدفًا شكليًا يُسعى إليه دون محتوى.

