من ايران إلى المكسيك.. رسائل استخباراتية تستهدف إسرائيل
د.نبيل العتوم
إعلان واشنطن وتل أبيب عن مخطط إيراني لاستهداف سفيرة إسرائيل في المكسيك، والذي بدأ يتبلور أواخر 2024 واستمر حتى منتصف 2025 قبل أن تُحبطه أجهزة الأمن المكسيكية-كما تم الإعلان عن ذلك - يعيد إلى الواجهة سؤالاً جوهرياً: لماذا تتجه طهران الآن إلى توسيع مسرح عملياتها صوب أمريكا اللاتينية، ولماذا تستعيد أدوات الاغتيال المباشرة في هذا التوقيت؟ هذا الاستهداف لا يبدو عملاً معزولاً بل يكشف نمطاً متسقاً من العمل الاستخباراتي والعسكري عبر شبكات خارجية: عناصر يُزعم انتماؤها إلى فيلق القدس ووحدات متخصصة نفذت أو خططت لعمليات بعيدة عن حدود المنطقة التقليدية للصراع، مستفيدة من قنوات دبلوماسية وقواعد دعم في دول ثالثة خاصة عناصر من وحدات امنية تتبع لحزب الله اللبناني —على سبيل المثال ما رُبط به من نشاط في فنزويلا— بهدف تجنيد عناصر محلية أو تشغيل شبكات إجرامية تسهل التنفيذ.
اختيار هدف دبلوماسي بحجم سفيرة إسرائيلية في بلد بعيد عن ساحة الصراع يحمل دلالات استراتيجية وحرب نفسية واضحة: فهو رسالة ردع رمزية تُظهر قدرة طهران على الوصول إلى ممثلين رسميين للخارج، ومؤشر على ميل لتصعيد رمزي وربما عملي كردّ على ضربات إسرائيلية سابقة في العمق الايراني ، وتجربة لآليات العمل السري التي تعتمد على وسطاء محليين وشبكات ثالثة لتفادي المساءلة المباشرة. هذا التوجه يعكس رغبة في تحويل نقاط ضعف الخصم الإسرائيلي الجغرافية إلى ساحات مواجهة بديلة، ما يوسع نطاق الصراع ويعقّد استجابة الجانب الاستخباري الإسرائيلي.
الزمن الذي دارت خلاله الخطة كما ورد في المعلومات المسربة إعلاميا —من نهاية 2024 إلى منتصف 2025— ليس اختياراً اعتباطياً. فالفترة شهدت توترات متصاعدة بين طهران وتل أبيب بما في ذلك حوادث عسكرية وعمليات سرية متبادلة، مما يفسر تبنّي مزيج من الإجراءات الانتقامية المباشرة وغير التقليدية. كما أن توجيه ضربة رمزية في موقع منفصل يخدم هدفين داخليين لطهران: أولاً إظهار الاستمرارية والقدرة على العمل رغم الضغوط الدولية والاستخباراتية وعمليات الاختراق ، وثانياً إرسال رسالة للحلفاء ودوائر التأييد مفادها أن القواعد الدولية لم تُعطل قدرة إيران على الرد.
مع ذلك، هذا التوجه يحمل تناقضاً جوهرياً: الاعتماد على شبكات وأنشطة بعيدة عن دائرة السيطرة يزيد احتمالات الانكشاف ويجلب احتكاكاً مع الأجهزة الامنية والسلطات في تلك الدول —وهي مخاطرة تحولت إلى واقع عندما أعلنت المكسيك أنها أحبطت المخطط— كما يفتح المجال أمام تداعيات دبلوماسية، سياسية، وربما اقتصادية تتحملها طهران. لذلك فإن إنكار السفارة الإيرانية بالأمس في المكسيك للاتهامات ووصفها بأنها "كذبة كبيرة" لا يكتفي بنبرة إنكار بحتة بل يمثل محاولة لاحتواء آثار إعلامية ودبلوماسية قد تضر بعلاقات طهران مع دول ترغب في الاحتفاظ بمساحات تحرك أو بعلاقات تاريخية وودية.
بالمحصلة، تبدو طهران وهي تختبر نطاقاً أوسع من أدوات الضغط والإيذاء خارج الشرق الأوسط، منتقلة من الاعتماد شبه الحصري على وكلاء إقليميين إلى إمكانية قيادة أو توجيه عمليات عبر خلايا أو وحدات خاصة. هذه ليست مجرد مواجهة عسكرية اعتيادية بل معركة على أمنية وسياسية: من الذي يثبت قدرته على ضرب الآخر داخل فضائه، ومن الذي يستطيع إحباط هذه العمليات دون أن يتحول الوضع إلى حلقة تصعيد مفتوحة. الفوائد المحتملة لطهران من هذه الإستراتيجية محدودة نسبياً مقارنةً بتكلفة الانكشاف والتبعات الدبلوماسية والأمنية، وهذا يفسر على نحو جزئي التردد الدولي في كشف كل التفاصيل والاتكال على عبارات مثل "المؤامرة تم احتوائها "دون اية تفاصيل ، لاعتبارات استخبارية محضه .
تُظهر هذه الحادثة رغبة إيرانية واضحة في توسيع ساحة المواجهة وأدواتها، لكنها في الوقت نفسه تكشف قيوداً حقيقية في القدرة على الحفاظ على سرية وفاعلية مثل هذه العمليات خارج بيئات موالية. السيناريو الأرجح للمستقبل هو استمرار مزيج من محاولات اختبار قدرات الخصم وتوظيف شبكات ثالثة مع تصاعد التعاون الاستخباراتي بين الولايات المتحدة وإسرائيل وحلفائهما لاحتواء أي انتقال نوعي حقيقي في مستوى التهديدات العابرة للقارات، لأن التكلفة المحتملة لأي تصعيد مفتوح قد تثقل كاهل الفاعل الايراني وتجعله أقل قدرة على تحقيق مكاسب استراتيجية ملموسة.

