الدباس يكتب : الأرقام لا تكذب.. لكنها قد تُستعمل للكذب..

{title}
أخبار الأردن -

محمود الدباس - أبو الليث..

ليست كل الأكاذيب تُروى بالكلمات.. فبعضها يُقدم في جداولَ ملونةٍ.. ونسبٍ مئويةٍ مُتقنةٍ.. تبدو بريئة.. لكنها تخفي وراءها واقعاً مختلفاً.. فالأرقام لا تكذب.. لكنها حين تُقال بلسانٍ غيرها.. تُصبح أصدق وسيلةٍ لتجميل الزيف.. سواء وُضعت بقصدٍ وسوء نية.. أو بجهلٍ لا يدرك أثره.. فكلاهما كارثة.. لأن النتيجة واحدة.. تضليل من يقرأ.. وإقناع من يملك القرار بما ليس حقيقياً..

حين يقول لك أحدهم إن ربحه ارتفع بنسبة خمسٍ وعشرين بالمئة.. لا تصفق قبل أن تسأله كيف حسبها؟!.. لأن هناك فارقاً خفياً بين الـ Markup والـ Margin.. فالأول يحسب النسبة من الكلفة.. والثاني من سعر البيع.. فلو كانت الكلفة 80 ديناراً.. وسعر البيع مئة.. فإن الربح 20 ديناراً.. لكن الـ Markup يراه 25٪.. بينما الـ Margin يراه 20٪.. أي أن الذي يظن أنه يربح ربع ما يبيع.. إنما يربح خُمس ما يبيع.. لا أكثر.. وحين يخطئ في هذه الزاوية الصغيرة.. يبني على وهم.. فيسعّر خطأً.. ويبيع كثيراً.. ليكتشف في النهاية أنه كسب أقل مما ظنّ..

وهذا المشهد البسيط.. هو صورة مصغرة لما يحدث على مستوى الدول أيضاً.. فحين تعلن الحكومة مثلاً.. أن النمو الاقتصادي ارتفع من 2٪ إلى 3٪.. يظن المواطن أن المصانع توسّعت.. وأن فرص العمل ازدادت.. بينما الواقع أن النمو.. قد يكون نتيجة ارتفاع الأسعار.. أو زيادة الضرائب.. أي أن الناتج ارتفع رقمياً.. لا إنتاجياً.. فالنمو هنا ورقي.. لا حقيقي.. وكذلك حين يُقال إن البطالة انخفضت من 22٪ إلى 20٪.. فإن الانخفاض ربما جاء.. لأن مَن يعمل لساعتين في الأسبوع عُد موظفاً.. أو لأن مَن يئس من البحث عن عمل.. شُطب من قائمة العاطلين.. فينخفض الرقم.. ويبقى الواقع كما هو..

إن النسب المئوية كالمرايا.. تُظهر الصورة لكن لا تُظهر حقيقتها.. فمن يجهل طريقة الحساب.. يظن أن الرقم نزيه.. بينما هو أحياناً منسّق إعلامياً.. ليخدم رواية جاهزة.. تُبهر السامع.. ولا تُنقذ الواقع..

لهذا.. ليس المطلوب من المواطن أن يكون خبيراً اقتصادياً.. ولا من المسؤول الكبير.. وصاحب القرار أن يكون محاسباً ماهراً.. بل أن يكون واعياً بأن الأرقام تُفسَّر.. ولا تُتلى.. وأن كل نسبة مئوية.. تحتاج سؤالاً يسبق التصفيق كيف حُسبت؟!.. ومن أين بدأت؟!..

فقد تخبرك الأرقام أنك في ازدهار.. بينما أنت في انحدار بطيء لا تشعر به.. الأرقام لا تكذب.. نعم.. لكنها قد تُجبر أحياناً على قول ما لا تعنيه.. والعاقل.. لا يصدق الرقم قبل أن يسأله مَن لقّنك الكلام؟!..

فليت مَن بيدهم القرار يدركون.. أن الأرقام ليست صادقة بذاتها.. بل بصدق مَن قدمها لهم.. وأن النسب المئوية قد تُلمّع.. لتغدو مرايا زائفة.. تعكس وجوهاً راضية.. وهي في جوهرها واجمة.. فكم من مسؤولٍ اطمأن لتقريرٍ ملوّن بالأرقام.. بينما الواقع من تحته يئن.. وكم من مديرٍ وثق بمن يصنع له الرضا بالحساب.. حتى صار الوهم عنده إنجازاً..

فالحذر كل الحذر من أن تُدار الدول بالأرقام وحدها.. دون فهمٍ عميقٍ لها.. لأن الرقم لا يُنذر.. ولا يشعر.. والأخطر.. أن مَن يُجمّل الأرقام.. يُجمّل موقعه معها.. ويبقى حيث هو.. بينما الحقيقة تُقصى بصمتٍ ورضى..

 

تابعونا على جوجل نيوز
البحر المتوسط لإدارة المواقع الإخبارية الالكترونية