العتوم يكتب: فخ غزة.. الجيش الأردني خارج دائرة النار

{title}
أخبار الأردن -

 

نبيل العتوم

غزة، هذا القطاع الصغير الذي يختصر صراعاً كبيراً، أصبح محور اختبار حقيقي لدول عربية واقليمية تواجه مفترق طرق بين حماية مصالحها وأمنها الوطني، وبين الانجرار إلى مواجهة عسكرية مفتوحة قد تضعها في فخ سياسي وعسكري لا يُحسد عليه، وفي قلب هذا التوازن الدقيق، يبرز موقف الأردن بوضوح: رفض أي مشاركة للجيش الأردني في خطوط النار، مع التزامه بدعم الأمن الفلسطيني عبر التدريب والمشورة، بعيداً عن الاشتباك المباشر مع حماس والفصائل المسلحة الأخرى. هذا الموقف ليس مجرد تحفظ دبلوماسي، بل تعبير عن قراءة استراتيجية عميقة لمخاطر الانخراط الميداني في غزة، حيث تتشابك وتتصارع مصالح واشنطن وتل أبيب والدول الإقليمية في ميدان أمني شديد التعقيد، مليء بالفخاخ العسكرية والسياسية، ويهدد التوازن الداخلي الأردني إذا لم يتم التعامل معه بحذر.

الحديث عن احتمال إرسال قوات أردنية إلى غزة يفتح باباً بالغ الحساسية، ليس فقط من زاوية السياسة الخارجية الأردنية، بل من عمق معادلة الأمن الإقليمي المعقدة على أرض واحدة ؛ فالموقف الذي أعلنه الملك عبد الله الثاني برفض مشاركة الاردن في أي قوة “لفرض السلام” في القطاع، لا يمكن قراءته بوصفه موقفاً دبلوماسياً عابراً، بل يعكس إدراكاً استراتيجياً لطبيعة الفخ العسكري والسياسي الذي يمكن أن تنزلق إليه عمّان إن قبلت الدخول في مهمة كهذه.

يدرك الأردن أن فكرة "قوات حفظ السلام" في غزة وفق الخطة الأميركية لا تتطابق مع المفهوم التقليدي للأمم المتحدة في مهام الفصل بين المتحاربين أو دعم الاستقرار بعد نزاع داخلي. فالقوة المقترحة ليست ناتجة عن تفويض أممي بل عن تفاهمات سياسية تقودها واشنطن وتل أبيب، وهو ما يجعلها عملياً قوة سياسية ذات طابع أمني موجه، هدفها إعادة هندسة الواقع الأمني في القطاع بعد نزع سلاح حماس. وفي هذا السياق، يصبح الحديث عن “حفظ” السلام أقرب إلى “فرضه”، أي إلى استخدام القوة ضد طرف فلسطيني على الأرض، وهو ما يفسر التحفظ الأردني العميق.

من الناحية العسكرية، يدرك صانع القرار في عمّان أن نشر قوات في بيئة شديدة التعقيد مثل غزة يعني الدخول في حرب شوارع مفتوحة، في جغرافيا مليئة بالأنفاق والسلاح الخفيف والمتوسط،في وسط مجتمع غاضب يرى في أي قوة أجنبية شكلاً من أشكال الاحتلال الجديد. المشاركة في مهمة كهذه تعني أن الجنود الأردنيين سيكونون في تماس مباشر مع الفصائل المسلحة، وهو وضع لا يمكن أن تبرره القيادة الأردنية داخلياً أو إقليمياً، خاصة أن المزاج الشعبي الأردني منحاز تاريخياً إلى القضية الفلسطينية، ويرفض أي اشتباك مع أطرافها.

الأردن، الذي يحتفظ بعلاقات أمنية وثيقة مع واشنطن وعلاقات متوترة مع تل أبيب، يعرف أن الانخراط الميداني في غزة سيضعه في موقع لا يُحسد عليه. فالتورط الميداني سيقوّض صورته كدولة توازن بين التزاماتها الاستراتيجية وتحفظها القومي، وسيعرضه لهزات داخلية قد تستغلها قوى المعارضة الإسلامية أو اليسارية لتصوير المشاركة على أنها اصطفاف مع إسرائيل. كما أن أي خسائر بشرية في صفوف الجنود الأردنيين في غزة ستفتح الباب لموجة غضب قد تهز التماسك الداخلي، وهو ما لا يمكن للأردن تحمله في ظل أوضاع اقتصادية وأمنية دقيقة.

الأردن، يفضل لعب دور “المُدرب والمستشار” لقوات الأمن الفلسطينية، بدلاً من أن يكون جزءاً من القوة المنفذة على الأرض. هذا الخيار الذكي يمنح عمان مساحة المناورة الآمنة: فهي تظل حاضرة في الملف الفلسطيني، لكنها تبقى خارج ميدان النار المباشر. تدريب الشرطة الفلسطينية يعني دعم استقرار غزة من الداخل عبر أيدٍ فلسطينية، لا فرض الأمن من الخارج عبر بنادق أجنبية.

كذلك فإن البعد الاستخباري في الموقف الأردني حاضر بقوة. فالأردن الذي يراقب عن كثب التطورات في غزة يدرك أن البيئة الأمنية في القطاع ليست مغلقة على الفصائل فقط، بل تتقاطع فيها مصالح أطراف إقليمية مثل إيران وتركيا وقطر، وتتحرك فيها خلايا لها امتدادات فكرية وتنظيمية في المنطقة. إدخال قوات أردنية في هذا الخليط سيعني الانكشاف أمام شبكات يصعب ضبطها، وربما زعزعة التوازن الأمني الذي يحافظ عليه الأردن بدقة منذ سنوات.

الرفض الأردني إذاً ليس نابعاً من تردد أو خشية، بل من قراءة استراتيجية دقيقة للمشهد. فعمّان تعرف أن أي وجود عسكري عربي في غزة تحت مظلة خطة أميركية سيُفسر فلسطينياً كجزء من مشروع لتصفية القضية الفلسطينية، وهو ما يتناقض مع العقيدة الأردنية القائمة على دعم الحلول السياسية وضبط الإيقاع الأمني من دون الانخراط القتالي المباشر.

وبينما تراهن واشنطن على أن الدول العربية ستتحمل عبء “إدارة ما بعد الحرب” في غزة، يبقى الأردن مصراً على أن الحل الحقيقي يبدأ بإعادة إحياء المسار السياسي، لا بانتشار قوات أجنبية. فالأمن في غزة لا يُفرض بالبندقية، بل يُبنى عبر تسوية عادلة تُنهي الاحتلال وتمنح الفلسطينيين دولة قابلة للحياة. في ضوء ذلك، يبدو موقف عمّان أكثر من تحفظ، إنه تعبير عن عقيدة أمنية عميقة تقول إن الجيش الأردني صُمم لحماية الأردن لا ليكون جزءاً من حرب الآخرين على أرض فلسطين.

تابعونا على جوجل نيوز
البحر المتوسط لإدارة المواقع الإخبارية الالكترونية