الدباس يكتب: من الصندوق إلى الجاهة.. رحلة الديمقراطية المقلوبة!..
محمود الدباس
في العرف الديمقراطي.. التنافس شرف.. والفوز مسؤولية.. والخسارة اختبار لمدى إيماننا بمبدأ التداول الحقيقي للقرار.. لا تداول الأسماء والوجوه.. فحين يختصر البعض الطريق نحو الكرسي بتفاهماتٍ مسبقة.. فإنهم لا يختصرون المسافة.. بل يختصرون المعنى ذاته.. معنى الديمقراطية التي تعني أن نقف جميعاً أمام الصندوق.. ونقبل حكمه دون تبرير.. أو التفاف..
راقني ما أراه في بعض المؤسسات التي تتشكل مجالس إدارتها من عشرة أشخاص مثلآ.. ولا يحق إلا لثلاثة منهم التناوب على مقعد الرئاسة عاماً بعد عام.. فيمارسون انتخاباً شكلياً.. يعلم الجميع نتيجته سلفاً.. ورغم بساطة المشهد.. إلا أنه يعكس احتراماً عميقاً لفكرة الدور.. واحتراماً أعمق لقيمة الاتفاق المبدئي.. لا الالتفاف المصلحي..
أنا مع التفاهمات.. حين يكون الهدف منها إظهار وحدة صف داخل العائلة.. أو العشيرة.. أو الحزب.. لكنني لست مع أن تتحول إلى بديلٍ عن الصندوق.. فالتفاهم قبل المنافسة شيء.. واغتيال المنافسة باسم التفاهم شيء آخر.. الديمقراطية لا تنمو بالتراضي المسبق.. بل بالاحتكام النزيه.. وبالقبول بنتيجةٍ قد لا تُرضي الجميع.. لكنها تُرضي الضمير العام..
وأنا مع مفهوم الدولة العميقة في أي بلد.. فهي التي تحفظ الاتجاه العام للدولة.. وتمنع انحراف بوصلتها.. لكن التدخل الذكي.. والإخراج المحكم.. لا يعني تجاوز الصندوق.. بل حسن إدارة نتائجه.. فالتأثير المشروع.. هو الذي يصون الشكل الديمقراطي.. ويُجمّل المضمون.. لا الذي يُقصي الصندوق.. ليحكم من وراء الستار.. فالدولة القوية.. هي التي توازن بين عمقها وثقة شعبها.. بين قوتها الداخلية.. وصوت صناديقها.. لأن الصندوق.. هو الذي يمنحها شرعية الوجود.. لا العكس..
انظروا إلى انتخابات الكونغرس الأمريكي.. أو مجلس العموم البريطاني.. فمع أن الأرقام الحزبية تجعل النتائج شبه محسومة.. إلا أن الجميع يخوض المعركة حتى آخر صوت.. ليس لأنهم يتوهمون الفوز.. بل لأنهم يريدون أن يبقوا روح الديمقراطية حية في عقول ناخبيهم.. يريدون أن يقولوا لهم.. إنكم أنتم الحكم.. وأن الصندوق هو صوت الدولة.. لا صوت الحزب..
أما نحن.. فما زال بعضنا يظن أن الاتفاقات خلف الأبواب المغلقة هي قمة الحكمة.. وأن خوض الانتخابات رغم معرفة النتائج.. هو نوع من العبث.. وكأن الديمقراطية عندنا طقس اجتماعي.. لا مسار وطني.. نمارسه حين نريد.. ونلغيه حين نخشى أن يفاجئنا الصندوق بما لا نحب..
طرقت هذا الحديث.. حين رأيت ما يدور حول انتخابات رئاسة مجلس النواب القادم.. وكيف تحولت الجاهات والمجاملات إلى معيارٍ لاختيار الرئيس.. حتى وصل الأمر إلى حد الإحراج لبعض المنافسين.. وكأن الصندوق بات عيباً.. والتصويت تهديداً للصف الوطني!..
المصيبة أن مَن يمارس هذا النهج.. هم ذاتهم الذين أوصلهم الصندوق إلى مقاعدهم.. والأدهى.. أن بعضهم يروّج لما يجري.. بأنه تجذير للديمقراطية.. أو حفاظ على الوحدة.. وكأننا لا نحافظ على وحدتنا.. إلا إذا دفنّا صوت الناخب تحت طاولة التفاهمات!..
فعن أي ديمقراطية تتحدثون.. وأنتم تفرّون من الصندوق حين لا تضمنون نتائجه؟!.. وعن أي صف تتحدثون.. وأنتم تعتبرون الخسارة انشقاقاً.. لا تجربة؟!.. الديمقراطية الحقيقية يا سادة.. ليست في أن يفوز صديقك.. أو ابن عشيرتك.. بل أن تقبل بخسارته.. دون أن تهتز ثقتك بالنهج..
فليتنا نبلغ من الوعي ما يجعلنا نحتكم للصندوق دون خوف.. ونهني الفائز دون حرج.. ونقول للخاسر بكل تقدير.. حظاً أوفر.. لقد خضت معركة الشرف.. لا معركة المقعد.. حينها فقط.. سنعرف أن الديمقراطية.. ليست حفلة أصوات.. بل ثقافة أمة.. ومسار دولة.. لا يُدار بالتفاهمات.. بل يُبنى بالإيمان بالحق.. وبنزاهة الصندوق الذي صنعكم..

