الدباس يكتب: هل انتَقدَ الدكتور ماجد الخواجا.. أم أنقذ هيبة الكلمة؟!..

{title}
أخبار الأردن -

محمود الدباس - أبو الليث..


ربما يظن البعض أن الدكتور ماجد الخواجا كان قاسياً في مقاله الأخير المعنون بـ"الارتجال في التصريحات الحكومية".. حين وضع إصبعه على جرحٍ طالما حاول كثيرون تغطيته بالكلام المنمق.. لكنه في الحقيقة لم يخطئ.. بل أصاب الهدف كعاداته بدقةٍ تامة.. حين نبّه إلى عمق الخلل في لغة الخطاب الرسمي.. وفضح تلك الفوضى.. التي تسكن عقل بعض المسؤولين حين يقفون أمام الكاميرات.. أو يواجهون الناس دون وعيٍ بموقع الكلمة.. ولا إدراكٍ لحجم المنصب الذي يشغلونه..

فما قاله أرسطو منذ قرون "تكلّم حتى أراك" والتي افتتح بها الدكتور الخواجا مقاله.. لم يكن حكمةً فلسفيةً عابرة.. بل قاعدةً خالدة في فهم الإنسان من منطقه.. لا من مظهره.. ولا من الكرسي الذي يجلس عليه.. فالكلمة مرآة الوعي.. ومَن لا يحسن النطق.. لا يحسن القيادة.. إذ لا يمكن أن يُقاس اتزان المسؤول بمقدار ما يحمل من ألقاب.. بل بقدر ما يحمل من وعيٍ لغوي وفكري.. يجعل خطابه صادقاً.. مسؤولاً.. موزوناً..

حين يتحدث وزير بلغة شعبوية عن البسس والدجاج.. وكأنّه شخص جالس مع اصدقائه.. لا في مجلسٍ رسمي.. وحين يخرج رئيس هيئة الخدمة المدنية ليقول.. إن المواطن يحتاج 73 عاماً لينال وظيفة.. فهنا لا يكون الأمر زلة لسانٍ.. أو مزاحاً ثقيلاً.. بل سقوطاً في فخّ الارتجال.. الذي يسيء إلى هيبة الدولة.. قبل أن يسيء إلى قائله.. فالمسؤول حين يتكلم.. لا يتحدث بصفته الفردية.. بل ينطق باسم دولةٍ كاملة.. فكيف تُختزل الدولة في جملةٍ محبطةٍ.. أو عبارةٍ هزليةٍ تشبه النكتة.. أكثر مما تُشبه التصريح الرسمي؟!..

الخطاب الحكومي ليس رفاهية لغوية.. بل هو مرآة الوعي العام.. لأن الناس حين تفقد الثقة في منطق المسؤول.. تفقد الثقة في قراراته أيضاً.. والخلل لا يقف عند حدود الوزارات والمؤسسات.. بل يمتد إلى بعض النواب.. الذين يفترض أن يكونوا حراس الكلمة.. لا عبيد الميكروفون.. إذ نشاهد تحت القبة.. وفي المقابلات التلفزيونية.. أداءً يفتقر إلى أبسط مهارات الإقناع.. لا من حيث اللغة.. ولا من حيث الحجة.. وكأننا أمام خطابات مرتجلةٍ.. تُنطق بالعاطفة.. لا بالعقل..

ولعل أخطر ما في المشهد.. أن بعض المسؤولين يظنون أن الشفافية.. تعني قول أي شيء.. في أي وقت.. بينما الشفافية الحقيقية.. هي أن تتكلم بالحقائق.. دون أن تُطفئ الأمل.. وأن تصارح الناس بالواقع.. دون أن تُعلن موت المستقبل..

فهل ما قاله رئيس هيئة الخدمة المدنية.. حين تحدث عن حاجة الأردني إلى 73 عاماً لينال وظيفة.. يُعد شفافية؟!.. أم هو إعلان مبطن عن عجز المنظومة عن إيجاد الحلول.. خصوصاً.. وأن أي رقم مرتبط بالتوظيف.. لا يمكن أن يُصاغ إلا وفق معايير دقيقة.. تشمل التقاعد، الوفيات.. الاستقالات.. نمو الجهاز الحكومي.. وحركة القطاع الخاص والاستثمارات.. فهل نفهم منه.. أن الحكومة رفعت الراية البيضاء.. واستسلمت أمام أزمة التوظيف؟!.. إن بين المصارحة والعجز شعرة لا تُرى.. ومَن يخلط بينهما.. يُربك الدولة.. بدل أن يُنقذها..

اخي الدكتور أبا طارق.. أحييك.. فأنت نقدت بحسك الوطني والمهني.. ولم تنتقد.. وقد أصبت الهدف.. حين وضعت المرآة أمام وجوهٍ لا تحب أن ترى نفسها.. أصبت حين قلت.. إن المسؤول حين يتحدث.. لا يمثل نفسه.. بل يمثل وطناً بأكمله.. وإن أخطأ في جملةٍ واحدة.. فقد يُشعل بها غضب شعبٍ كامل..
 
فالكلمة يا سادة.. ليست صوتاً يُقال.. ثم يضيع في الهواء.. بل نبض دولةٍ يُقاس بوعي مَن ينطق باسمها.. فحين يهبط مستوى الخطاب.. تهتز هيبة المؤسسات.. وحين يعلو الوعي.. تتزين الأوطان بحديث أبنائها.. فاحذروا أن تُطفئوا الأمل بكلمة.. فإن الأوطان تبدأ بالسقوط.. حين يفقد الناس الثقة في اللغة التي تُخاطبهم..

محمود الدباس - أبو الليث..

تابعونا على جوجل نيوز
البحر المتوسط لإدارة المواقع الإخبارية الالكترونية