العتوم يكتب: خطة طوارئ أردنية لمواجهة المشروع الإسرائيلي

{title}
أخبار الأردن -

 

خطة طوارئ أردنية لمواجهة المشروع الإسرائيلي

تبدو قمة شرم الشيخ التي انعقدت مؤخرًا كحدث دبلوماسي يختزل صراعًا أعمق بكثير من مجرد محاولات لإحياء مسار السلام. فخلف لغة البيانات الهادئة، تتكشف معادلات إقليمية جديدة تُعيد رسم خرائط النفوذ وتفتح الباب أمام سيناريوهات خطيرة تمس أمن الأردن مباشرة. إذ لم يكن غياب بعض القادة الإقليميين عن القمة، تفصيلًا بروتوكوليًا عابرًا، بل مؤشراً على تباين في الحسابات، وخلافات في وجهات النظر إزاء المرحلة المقبلة التي بدأت تتبلور فيها ربما مشاريع كبرى تمس امن المنطقة ومستقبل الضفة الغربية

والأردن معًا.

في هذا السياق، تبرز إسرائيل بوصفها الطرف الأكثر نشاطًا في توظيف التحولات الإقليمية لتحقيق مكاسب استراتيجية جديدة. فبينما تتحدث عن “الاستقرار” و”السلام”، تعمل على خلق واقع ميداني في الضفة الغربية يهدف إلى تفريغها تدريجيًا من سكانها الفلسطينيين، مستغلة الدعم الأميركي المتواصل الذي يمنحها غطاءً سياسيًا وعسكريًا لمواصلة التصعيد دون محاسبة. ومع تصاعد العنف الاستيطاني والعمليات العسكرية التي تدمر البنية السكانية والاقتصادية للمدن الفلسطينية، يتضح أن الهدف ليس الأمن بقدر ما هو إعادة تشكيل ديموغرافي قسري يُهيئ الأرضية لتهجيرٍ منظم نحو الشرق، أي نحو الأردن، في ما يشبه “الخطة الصامتة” التي تتغذى على فوضى الضفة وليس على حدود غزة التي لا تتصل جغرافيًا بالمملكة.

هذا التهديد لا يقف عند حدّ الخطر الإنساني، بل يتعداه إلى مستوى الأمن القومي الأردني. فالأردن يجد نفسه أمام معادلة قاسية: إما القبول بأمرٍ واقعٍ يُفرَض عليه من الخارج، أو مواجهة سيناريوهات ضغطٍ مركّبة تستغل هشاشة موارده الاقتصادية واعتماده على الدعم الدولي. إسرائيل، في هذه اللعبة، لا تحتاج إلى حرب مفتوحة لتغيير التوازنات، بل تكتفي بإشعال بؤر التوتر في الضفة، وتركها تتفاقم لتتحول إلى عبءٍ ديموغرافي وسياسي يُنقل ضغطه تدريجيًا نحو عمّان. والمفارقة أن بعض القوى الغربية، وعلى رأسها واشنطن، تُسهم من حيث تدري أو لا تدري في تهيئة هذا المشهد عبر منح تل أبيب ضوءًا أخضر ضمنيًّا لتوسيع عملياتها بحجة “محاربة الإرهاب” أو “ضبط الأمن”، بينما الهدف الأعمق هو فرض واقع يجعل الأردن لاعبًا مقيّد الحركة تحت سيف الأزمات.

استراتيجياً، يدرك صناع القرار في تل أبيب أن الضغط على الأردن لا يكون بالتهديد المباشر، بل عبر خلق بيئة غير مستقرة على حدوده الغربية، تتداخل فيها عناصر التهجير، والأزمات الاقتصادية، والضغوط السياسية. فكل موجة نزوح محتملة من الضفة يمكن أن تُستثمر لتغيير أولويات عمّان وإشغالها بأعباء داخلية، مما يضعف موقفها التفاوضي في أي ملف إقليمي، خصوصًا ما يتعلق بالوصاية الهاشمية على القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية، أو في قضايا المياه والطاقة واللاجئين. وبهذا المعنى، يتحول الأردن إلى “مستقبل الضغوط” لا شريكًا متكافئًا في معادلة السلام.

ومن الناحية الأمنية، يدرك الأردن أن مواجهة هذا النوع من التهديدات لا تتم فقط عبر تعزيز الحدود، بل عبر إدارة الأزمة في عمقها السياسي والاستخباراتي. فعمّان مطالبة اليوم بقراءة دقيقة لتحركات إسرائيل في الضفة، وبالتعامل مع كل تصعيد ميداني هناك كإشارة محتملة على تغيير في قواعد اللعبة. كما أن التنسيق الإقليمي بات ضرورة لا خيارًا، لتشكيل جبهة عربية واقعية قادرة على كبح تمدد هذا المشروع ومنع تحويل الضفة إلى منصة ضغطٍ دائمة. فإسرائيل تراهن على تفكك الموقف العربي وعلى انشغال كل دولة بأزماتها الخاصة لتواصل فرض سياسة الأمر الواقع دون ردٍّ جماعي.

لكن الأردن ليس بلا أدوات. فالتاريخ القريب يثبت أن المملكة لطالما واجهت الأزمات الكبرى بمرونة سياسية وذكاء استراتيجي. المطلوب الآن تفعيل خطط طوارئ شاملة على أكثر من محور. فعلى المستوى السياسي والدبلوماسي، يجب أن يتحرك الأردن بكثافة على الساحة الدولية لتوضيح المخاطر الكارثية لأي تهجير قسري من الضفة، مع بناء تحالفات جديدة تستند إلى مصالح متبادلة وليس فقط إلى الدعم التقليدي. فالمعركة الآن معركة سردية أيضًا، إذ تحاول إسرائيل تقديم نفسها كطرف “يدافع عن أمنه”، بينما هي في الواقع تقوّض أمن المنطقة بأكملها.

أما على المستوى الأمني والعسكري، فينبغي تطوير منظومة مراقبة استخباراتية دقيقة على طول الحدود الغربية، وتعزيز الجاهزية اللوجستية للتعامل مع أي طارئ ميداني، سواء كان تسللاً منظمًا أو موجات نزوح مفاجئة. كما يتعين دعم وحدات الحرس والحدود بقدرات تكنولوجية واستطلاعية متقدمة، بالتوازي مع تنسيق عميق مع الأجهزة الفلسطينية

لتبادل المعلومات حول أي تحركات إسرائيلية مريبة أو إشارات تدل على نية لخلق فوضى في مدن الضفة.

اقتصاديًا، يحتاج الأردن إلى التحرك بسرعة لتقليل الاعتماد على الخارج، وتنويع مصادر الطاقة والغذاء، وبناء احتياط استراتيجي من المواد الأساسية والأدوية لتجنب أي اختناق في حال اندلاع أزمة إقليمية جديدة. كما يجب تسريع خطط دعم الزراعة والمياه والطاقة المتجددة، لأن أي ضعف اقتصادي يتحول فورًا إلى ثغرة يمكن لإسرائيل أو حلفائها النفاذ منها لابتزاز عمّان.

أما على الصعيد الاجتماعي والإعلامي، فالحفاظ على الجبهة الداخلية ضرورة قصوى. يجب تعزيز وعي الشارع الأردني بخطورة المرحلة دون تضخيم المخاوف، وإحباط أي محاولات لبث الشائعات أو استغلال الغضب الشعبي لتأليب الناس على الدولة. فإسرائيل تراهن على الانقسام الداخلي الأردني بقدر ما تراهن على ضعف الموقف العربي، وبالتالي فإن تحصين الداخل هو خط الدفاع الأول.

إن ما يجري اليوم في الضفة ليس مجرد تصعيد ميداني عابر، بل اختبار حقيقي لقدرة الأردن على حماية حدوده وهويته وقراره السيادي. فالمعركة لم تعد فقط على أرض فلسطين، بل على مستقبل الأردن ذاته. وما بين “التهجير الصامت” و”الدعم الأميركي اللامحدود” لإسرائيل، تتشكل بيئة إقليمية قد تُفرض فيها حلول خطيرة على حساب المملكة إن لم تكن جاهزة بخطة واضحة ومتماسكة.

وهكذا، بينما ينشغل العالم بخطابات السلام والمؤتمرات وتكرار الشعارات وحشد الخطابات والعزف المنفرد على فكرة حل الدولتين ، تواصل إسرائيل هندسة واقع جديد في الضفة الغربية، يجعل الأردن في مرمى الخطر. غير أن الرد الأردني لا يجب أن يكون انفعالياً، بل استباقياً، قائماً على وعيٍ استراتيجي وقدرةٍ على المناورة. فحين يقرأ الأردن ما فوق الطاولة وما تحتها، ويفكك الخطوط المتشابكة، ويعيد ترتيب بيته الداخلي بقوة وثقة، يصبح قادراً على تحويل الخطر إلى فرصة، والتهديد إلى دافعٍ لتثبيت وجوده في قلب منطقة تعيش على حافة الانفجار.

 

 


 

تابعونا على جوجل نيوز
البحر المتوسط لإدارة المواقع الإخبارية الالكترونية