الدكتور غنيمات يكتب: العالم عمر ياغي.. بين مجد الاكتشاف ونكران الفضل
الدكتور حمدان غنيمات
في زمنٍ تتسابق فيه الأمم لتكريم علمائها وتخليد أسمائهم في الذاكرة الوطنية، يبرز اسم العالم الدكتور عمر ياغي كواحدٍ من أعظم العقول التي أنجبتها منطقتنا، لكنه في الوقت ذاته، يشكّل مثالاً مؤلماً على ظاهرة “نكران الفضل” التي تطال كثيراً من المبدعين العرب حين يضطرون إلى تحقيق إنجازاتهم بعيداً عن أوطانهم.
ولد عمر ياغي عام 1965 في العاصمة عمّان لعائلة فلسطينية لاجئة من مدينة يافا، ونشأ في بيئة بسيطة تعاني من محدودية الموارد، لكنه حمل في داخله طموحاً لا يعرف المستحيل.
غادر ياغي الأردن في سن الخامسة عشرة متوجها إلى الولايات المتحدة، حيث درس الكيمياء وتفوّق حتى حصل على درجة الدكتوراه من جامعة إلينوي عام 1990، ليبدأ مسيرة علمية مذهلة جعلته اليوم أحد أبرز علماء الكيمياء في العالم.
اشتهر ياغي بابتكاره للأطر المعدنية العضوية (MOFs) والهياكل التساهمية العضوية (COFs)، وهي مواد ثورية أحدثت تحولاً في مجالات تخزين الغازات، وتنقية الهواء، واستخلاص المياه من الرطوبة الجوية — تطبيقات جعلته على أعتاب جائزة نوبل للكيمياء لعام 2025، والتي توّج بها فعلاً، ليصبح أول عالم أردني وعربي ينال هذا الشرف العلمي العالمي.
لكن في خضم هذا الإنجاز الأسطوري، يثور سؤال مشروع في الأوساط العلمية والشعبية الأردنية: هل أنصف الأردن ابنه العالم؟ أم أن ياغي هو ضحية جديدة من ضحايا نكران الفضل؟.
رغم أن جلالة الملك عبد الله الثاني كان قد كرم ياغي بميدالية التميز من الدرجة الأولى عام 2017، إلا أن التقدير المؤسسي والعلمي له ظل خجولاً ومحدوداً. لم يُنشأ مختبر باسمه، ولم يُستدعَ لتطوير برامج علمية وطنية، ولم تُوظَّف خبراته في خدمة الجامعات الأردنية. بل على العكس، كان الاعتراف الدولي به أسرع وأكثر جرأة، إذ منحته المملكة العربية السعودية جنسيتها تقديراً لإسهاماته، وتبنّت مشاريعه البحثية بتمويل سخي، بينما ظلّ وطنه الأول يكتفي بالتصفيق عن بُعد.
ليس الحديث هنا موجها ضد الأردن كوطن أو نظام، بل هو دعوة صريحة لإعادة النظر في طريقة تعاملنا مع العلماء، كم من الكفاءات غادرتنا بسبب ضعف الدعم البحثي أو غياب البيئة العلمية الحاضنة؟ وكم من عقلٍ عربيٍ لمع في الخارج بعدما عجز عن إيجاد من يمدّ له اليد في بلاده؟
إن نكران الفضل ليس في إنكار الأصل، بل في التقاعس عن الاعتراف بالفضل الحقيقي، وفي تجاهل واجب الدولة والمجتمع في احتضان المبدعين لا بعد فوزهم، بل في مراحل تكوينهم ونضجهم. فالأمم لا تُبنى بالتصفيق بعد الإنجاز، بل برعاية العقول قبل أن تهاجر.
في المقابل، بادرت السعودية في كسب العالم ياغي، ووفرت له سبل الحياة الكريمة واستثمرت فيه ما يجب أن يكون وصولا إلى جائزة نوبل، ليرد لها ياغي الجميل ويخرج بفيديو يشكر المملكة السعودية وولي عهدها الأمير محمد بني سلمان، دون الإشارة إلى الأردن لا من قريب ولا من بعيد.
العالم عمر ياغي اليوم ليس مُلكاً لبلد معين، بل للإنسانية جمعاء، لكنه يظلّ في الوجدان ابناً لهذه الأرض التي وُلد فيها أول حلم له. وربما يكون من الوفاء أن نحفظ له مكاناً في ذاكرتنا الوطنية، لا كرمزٍ للهجرة العلمية، بل كبرهانٍ على أن "العقل الأردني" قادرٌ على الوصول إلى قمة العالم إذا ما وُجدت البيئة التي تؤمن به.

