د. نادية سعد الدين تكتب: لبنان: دفع فاتورة الأطماع الإسرائيلية رغم الاستقرار الداخلي النسبي
د. نادية سعد الدين
يستند الاحتلال الإسرائيلي إلى مُسِّوغات دينية وتاريخية مزعومة لإضفاء ادِّعاءات “الشرعيّة” على أطماعه الاستعمارية التوسعيِّة في لبنان، التي تطل بين ثنايا مخطط خروقاته المتواصلة لاتفاق وقف إطلاق النار، المُبرَّم في 27 نوفمبر 2024، ومماطلته بالانسحاب الكامل من أراضيه، سعيًا منه لاستكمال ما فشل في تحقيقه بعدوانه، الذي شنَّه في أكتوبر 2023 وصعَّده في سبتمبر 2024، أسوة بنهج حروبه السابقة، مما يهدِّد أمن واستقرار المنطقة.
ورغم الاستقرار النسبي في الساحة اللبنانية، الذي يعود نصيبه الأكبر لتوافق القوى السياسية اللبنانية على اتخاذ خطوات وازنة متسارعة لضبط المشهد السياسي الداخلي، إلا أن استمرار السلوك الإسرائيلي العدائي قد يُنذر بانهيار الاتفاق وتوسيع العدوان وتجدد المواجهة مع “حزب الله”، مثلما قد يشكل ضربة قوية لجهود القيادة اللبنانية الجديدة في التصدي للأزمات الاقتصادية والاجتماعية الممتدة منذ سنوات طويلة، وراكمها الاحتلال سوءًا، بما يضيف إليها تحديات أخرى ناجمة عن تبعات الأطماع الإسرائيلية في لبنان.
إلا أن الوعي المجتمعي وصمود المقاومة الإسلامية وإدراك القوى السياسية اللبنانية لأبعاد المخطط الإسرائيلي في لبنان، من شأنها أن تشكل سدًّا منيعًا أمام إنفاذه.
أولًا: المزاعم الدينية والتاريخية للأطماع الإسرائيلية في لبنان.
يستند الاحتلال الإسرائيلي إلى مقولات دينية واردة في نصوص التوراة والتلمود وتفسيراتهما، ومفاهيم يحملها السَّاسة الصهاينة أنفسُهم؛ لإضفاء ادِّعاءات “الشرعيِّة” الدينية والتاريخية المزعومة على أطماعه الاستعمارية التوسعيِّة في لبنان.
أ- المزاعم الدينية.
بعيدًا عن الآراء الخلافية بشأن تحريف الديانة اليهودية والتأويلات المتغايرة للتوراة (ليس مجاله هنا) فإن أسفار العهد القديم([1])، الذي بين أيدينا، إضافة إلى تعاليم التلمود([2]) ، تحملان العديد من النصوص التشريعية حول مفاهيم الأرض والحرب والصراع والقتل وامتلاك أراضي الغير، ضمن صياغة توليفية لها أثر بالغ في تشكيل ذهنية اليهود وبناء معتقداتهم الثقافية ومنطلقات نظرتهم نحو “الآخر”، بحيث أضحت مرجعًا فكريًّا وعمليًّا للمتدينين اليهود، لاسيما اليهودية الكلاسيكية والأرثوذكسية المتشددة (الحريدية)، وسندًا وظيفيًّا للصهيونية، لاسيما “الصهيونية الدينية”؛ لتسويغ مزاعم “الأحقية” التاريخية لليهود في فلسطين وجوارها، وتبرير التوسع الدائم في الحدود ونهج “الدولة” في العنف والتطرف، وهي ادِّعاءات محكومة باعتبارات أيديولوجية عقائدية سياسية مؤطرة بغيبيات مطلقة لا تخضع للنقاش أو التغيير باختلاف الزمان والمكان، بينما أسهم مفهوم الشريعة الشفوية الذي تنفرد به الديانة اليهودية دون الديانات السماوية الأخرى، والذي يساوي بين الكتاب المقدس وتفسيراته، وافتراض وجود توراتين إحداهما مكتوبة والأخرى شفهية تلقاهما موسى (عليه السلام) في سيناء_ في دعم مركز الحاخامات وخلع ضربًا من القداسة عليهم باعتبارهم مبشري تلك الشريعة وحملة رايتها ومفسِّريها.
تضم التوراة نصوصًا كثيرة تُشِّرع “أحقية” اليهود في احتلال الأراضي اللبنانية وضمَّها، مثل: ” أعطي لك ولنسلك من بعدِك كل أرضِ كنعان ملكًا أبديًّا وأكون إلههم”([3])، وأن الرب قال: ” أقمتُ معهم عهدي على أن أعطيَهم أرضَ كنعان أرض غربتهم التي نزلوا بها”([4])، و” قُلْ لبَني إِسرائيلَ إنَّكُم داخِلونَ أرضَ كنعانَ، وهيَ الأرضُ الَّتي أورَثْتُكُم إيَّاها، وهذِهِ حُدودُها: الحَدُّ الجنوبيُّ يمتدُّ مِنْ برِّيَّةِ صينَ على جانِبِ أدومَ، فيكونُ مِنْ طَرَفِ البحرِ المَيتِ شرقًا” ([5])، و” لنسلكَ أُعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات”([6])، و” ارفع عينيكَ وانظرْ الموضعَ الذي أنتَ فيه شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا لأن جميع الأرض الذي أنت ترى لك أعطيتها ولنسلكَ إلى الأبد”([7])، و” كل موضعِ قدمٍ تدُوسَه بِطونَ أقدامكم لكم أعطيته”([8])، وجاء أيضًا “إني أطردُ الأمم من قُدامِكَ وأوسِّعَ تُخومَك”([9]).
وتحث نصوص التوراة على العنف والعدوان للتخلص من شعوب الأرض المُستهدفة بالتوسع والضَّم عبر الطرد أو الفناء؛ فجاء فيها “طرَدَ شعوبًا كثيرة من أمامكَ ودفعهم الرب إلهكَ أمامكَ وضربتهم”([10])، و” لا تستبق منها نسمة ما بل تُحرمها تحريمًا كما أمركَ الرب إلهُك”([11])، وتعني “تُحرمها تحريمًا” إبادتها بالسيف، وأيضًا” إنكم عابرون إلى أرض كنعان فتطرُدون كل سكان الأرض من أمامكم وتملكونَ الأرض وتسكنونَ فيها لأني قد أعطيتكم الأرض التي تمتلكوها”([12])، و” قد وكلتكَ هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتهتك وتنقض”([13])، و”حاربِوا واضربوا وقطِّعوا أيديَهم وأرجلهم”([14]).
ويـأتي التلمود ليرسخ ما ورد في طيَّات التوراة؛ فأجازت تعاليمه استباحة امتلاك الأراضي والاستفادة من ثرواتها، فخاطبت اليهود بالقول “كل مكان تطؤهُ أقدامُكم وكل الأماكن التي تحتلُّونها فإنها لكم فأنتم تسرقون الجوييم المستكبرين في الأرض”([15])، وحثتهم على “منع استملاك باقي الأمم في الأرض حتى تبقى السلطة لهم وحدهم”([16])، و” إن أبناء إسرائيل يجب أن يعيشوا من خيرات أمم الأرض”([17])، وفق مزاعمها.
ولا يعني ذلك أن اليهودية قد تسببت وحدها في خلق عقلية عدوانية توسعيَّة، أو أنها أدت إلى ظهور الصهيونية، ولكن ثمة اندماج أو ارتباط اختياري بين اليهودية ونمط معين من مناخ ديني أوجدته، مما خلق عند اليهود استعدادًا كامنًا للتأثر بأفكار معينة يختلط فيها المطلق بالنسبي والمقدس بالقومي، فيما ارتبطت تلك العقائدية في أذهانهم بنوع من العصبية الدينية التي استسهلت فيما بعد قوالب القومية العنصرية التوسعية وحدودها الضيقة. كما أن تفسير الأفكار الدينية يؤدي دورًا محوريًّا في مدى فعاليتها على المستوى السياسي والمجتمعي وفي الشكل الذي قد تأخذه، وهو أمر وجد صِيغه في تيار قوي في الفكر الديني اليهودي الإصلاحي والتقليدي الأرثوذكسي فسر هذه الأفكار بطريقة أكسبتها مضمونًا روحيًّا ودينيًّا معينًا.
ب- مزاعم “الأحقيَّة” التاريخية.
يحتكم الاستخدام الإسرائيلي لكلمة التاريخ هنا إلى العهد القديم، أو إلى التراث الديني لليهود المكتوب منه والشفهي؛ لتبرير الأطماع التوسعية في لبنان، مما يشكل خلطًا بين المزاعم الدينية والتاريخية معًا، فتصبح الحدود التاريخية هي الحدود المقدسة المنصوص عليها في العهد القديم من “نهر مصر إلى الفرات” و”أرض كنعان”، والتي لا تمثل رؤية المتدينين والمتطرفين وحدهم بل تنبع من الوجدان الجماعي الإسرائيلي، بعد تلقينها المضامين الدينية الزائفة وربطها بالأطماع التوسعية. وينسحب ذلك على الحقوق التاريخية بوصفها حقوقًا مقدسة واردة أيضًا في العهد القديم بزعم أنهم “شعب مختار” له حقوق تستمد شرعيتها من العهد الإلهي الذي قطعه الله على نفسه لإبراهيم (عليه السلام).
يكشف ذلك قِدم المطامع الإسرائيلية في لبنان التي تعود تاريخيًّا إلى المؤتمر الصهيوني الأول الذي عُقد بزعامة مؤسس الحركة الصهيونية “ثيودور هرتزل” في مدينة بازل بسويسرا عام 1887، حينما حدد أهداف مشروعه الاستعماري الإحلالي في فلسطين ضمن حدود مطاطية قابلة للتوسع، مما يُفسِّر لاحقًا غياب حدود “الدولة” في “إعلان الاستقلال”، باعتباره تقييدًا لحركتها وتطلعاتها، ولأنها “المكان الذي يرابطون فيه ويدافعون من خلاله عن البلاد”، وفق منظور السَّاسة الإسرائيليين، فباتت تتنقل في مسّماها ونطاقها الجغرافي بين “أرض كنعان” و”الحدود التاريخية” و”إسرائيل الكبرى” و”التوراتية”، استنادًا إلى “جغرافيا التوراة” ذات الحدود الممتدة من “النيل إلى الفرات”، التي تحدث عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق “ديفيد بن غوريون” منذ عام 1937، وجدد تأكيدها في “الكنيست” عام 1956 رغم أنه ليس متدينًا، فيما تطالب بها الصهيونية الدينية والأرثوذكسية الحريدية اليوم.
وتحت مزاعم “الأسبقية” التاريخية في الأرض، التي يتم طرحها لتبرير مقولة “أرض الميعاد” لليهود في فلسطين، يستند السَّاسة الإسرائيليون إلى نصوص التوراة والتلمود للادِّعاء بأن “أرض إسرائيل” تشمل، بين ما تشمل، الأراضي التي انتشرت فيها قبيلة “نفتالي” اليهودية في ضفتي نهر الليطاني، وتلك التي عاشت فيها قبيلة “آشير” اليهودية في منطقة صيدا، التي كانت تضم أقلية يهودية في التاريخ المعاصر، تماهيًا مع محاولات إضفاء المدلول الديني على جبل الشيخ بزعم أن أحد الأسباط الـ12 كان يتواجد جنوب الليطاني، بهدف توظيفها في خدمة مشروعهم التوسّعي في لبنان والمنطقة.
ثانيًا: الأطماع الإسرائيلية في لبنان.
لم تنفك محاولات الحكومة اليمينية الإسرائيلية المتطرفة برئاسة “بنيامين نتنياهو”، أسوة بحال أسلافها ضمن سياق المشروع الصهيوني التوسعي بالمنطقة، عن توظيف المزاعم الدينية والتاريخية في مخطط أطماعها بالثروات المائية والطبيعية والأراضي اللبنانية، وتتمثل في الآتي:
أولًا: يواصل الاحتلال الإسرائيلي خروقاته لاتفاق وقف إطلاق النار، عبر التوغل البري وشنِّ الغارات ضد الأراضي اللبنانية، والمماطلة في استكمال الانسحاب من جنوب لبنان باحتلال خمسة مواقع إستراتيجية تمنحه نقاط مراقبة مهمة، ضمن مناطق احتلها في أثناء عدوانه الأخير، وكان من المفترض انسحابه منها بحلول 26 يناير 2025، وفق مهلة محددة بـ 60 يومًا، تزامنًا مع تعزيز انتشار الجيش اللبناني وقوة الأمم المتحدة المؤقتة (يونيفيل)، إلا أنه لم يلتزم بها، فجرى تمديدها حتى 18 فبراير 2025، ومع اقتراب الموعد الجديد، عاد للتنصل وطلب التمديد مجددًا، وهو ما رفضته بيروت، معتبرة على لسان رئيس مجلس الوزراء اللبناني “نواف سلام” في 29/4/2025 أن “عدم انسحاب إسرائيل بالكامل من أراضي بلاده يهدد الاستقرار بالمنطقة”.
ورغم تذرع حكومة نتنياهو بحجَّة “الانتشار المؤقت” لقواتها؛ لتبرير البقاء في مناطق حدودية إستراتيجية بجنوب لبنان، لكنه يمثل احتلالًا للأراضي اللبنانية. ويبدو أنها لا تكتفي باتفاق يضمن منطقة خالية من عناصر “حزب الله” وسلاحه جنوبي الليطاني فقط، بل تسعى لأكثر من تطبيق القرار الدولي رقم 1701 ([18])، وربما إعادة الأوضاع لما كانت عليه باحتلال مطوَّل لأجزاء أكبر من جنوب لبنان، قبل الانسحاب عام 2002، أو على الأقل إيجاد ترتيبات أمنية تضمن البقاء على مقربة من الحدود إن لم يكن داخل مساحات منها، بما يشكل تغييرًا جغرافيًّا جذريًّا فيها.
ثانيًا: يؤشر ما سبق إلى مخطط إسرائيلي لإدامة تبعات الحرب وتثبيتها واقعًا ملموسًا، ليس فقط بهدف تقليص نفوذ “حزب الله” في السياسة اللبنانية وتدمير بنيته العسكرية ونزع سلاحه، أو على الأقل إضعافه وتحييده، وإعادة المستوطنين في شمال فلسطين المحتلة إلى منازلهم، بدون مبارحتها لأهميتها، بل أيضًا لمسعى خلخلة التركيبة السكانية، وزعزعة الاستقرار المحلي، وتغيير الخارطة الجغرافية اللبنانية لفرض واقع أمني وجغرافي جديد.
ثالثًا: تعكس تصريحات المسؤولين الإسرائيليين أطماعًا في ثروات لبنان وموقعه الإستراتيجي الوازن؛ بوصفها “حلمًا” غابرًا تكشف عنه الوثائق الإسرائيلية القديمة، عبر مطلب احتلال جنوب لبنان واستيطانه لتأمين الوصول إلى نهر الليطاني وجعله حدود “دولتهم” الشمالية، قياسًا بالمتحدث باسم الحكومة الإسرائيلية “ديفيد مينسر” الذي زعم في 24/9/2024 أن “نهر الليطاني حدود إسرائيل الشمالية”، ودعوة الوزير اليميني المتطرف “بتسلئيل سموتريتش” في 10/10/2024 “بتوسيع الحدود إلى عمق الأراضي اللبنانية التزامًا بالكتاب المقدس اليهودي”، أسوة بدعوة كبير حاخامات الحسيديم “إسحاق غنزنبورغ”، سبتمبر 2024 “لاستيطان لبنان بوصفه جزءًا من الأرض الممنوحة لإسرائيل الممتدة إلى نهر الفرات”، وفق مزاعمهم.
رابعًا: يُدِّلل الإسراع الإسرائيلي في الاستيلاء على جبل الشيخ ومواقع عدة بالجولان السوري فور سقوط النظام السوري، في 8 ديسمبر 2024، وإعلان إنهاء اتفاق “فض الاشتباك” مع سوريا لعام 1974، والسيطرة على المنطقة العازلة التي تقدر مساحتها بـ 235 كم مربع_ على أهميته البالغة بالنسبة لمخططها التوسعي في لبنان.
وتخلط العقلية الإسرائيلية هنا العنصر الديني بالمغزى الاستعماري لجبل الشيخ، عند إحياء مكانته الدينية المزعومة لدى اليهود، تماهيًا مع الأبعاد المُعتبرة الكامنة وراء خطوة احتلاله، نظير موقعه الإستراتيجي المُشرف على أربع دول، وهي (سوريا، لبنان، الأردن، وفلسطين المحتلة) وكونه أعلى جبل في سوريا، مما يوفر مكانًا أمنيًّا حيويًّا لمراقبة أنحاء المنطقة، لم يكن متاحًا بالسابق، فضلًا عن موارده الاقتصادية وقيمته البيئية والمائية الغنيَّة، التي تجعله قاعدة أساسية لمشروع الاستيطان والتوسُّع؛ حيث يستقبل كمية كبيرة من الأمطار، ويغذي الينابيع والأنهار الموجودة أسفل الجبل التي تشكل نهر الأردن بالمياه العذبة، ويمتاز بغطاء نباتي أخضر متنوع، مما جعله محط الأطماع الإسرائيلية على الدوام، سبيلًا للتوسُّع والسيطرة على الموارد المائية بالمنطقة، وتقليص إمدادات المياه للفلسطينيين لإجبارهم على التهجير القسري.
خامسًا: تطل المطامع الإسرائيلية القديمة في نهر الليطاني بين ثنايا مخطط تغيير الخارطة الجغرافية اللبنانية، مما جعل أطول أنهار البلاد اللبنانية وأكبرها وأهمها إستراتيجيًّا مركز اهتمام الاحتلال الإسرائيلي، ومحور عمليات عسكرية نفذها في السابق لاجتياحه، وموضع مساعيه المتواترة لإبعاد عناصر “حزب الله” إلى ما وراءه، ومما يُفسِّر أيضًا هجماته الكثيفة لتفريغ الأراضي الواقعة بين الليطاني والحدود الشمالية لفلسطين المحتلة من سكانها، وطروحاته المتوالية بإقامة منطقة عازلة على طول الحدود مع لبنان تمتد حتى نهر الليطاني.
ويدخل نهر الليطاني في المخطط الإسرائيلي لعدة أسباب: أولًا، نظير موقعه الإستراتيجي وقربه من الحدود مع فلسطين المحتلة، فيما تبتعد زاويته الشرقية نحو 5 كيلومترات عن مستوطنة “ميتولا” الجاثمة فوق أراضي بلدة المطلة الفلسطينية في “إصبع الجليل”. ثانيًا: لإدراجه في المشروع الصهيوني التوسعي الذي يتضمن، وفق تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، مخططَ الاستيلاء على جنوب لبنان وضم الليطاني وتأمين كميات المياه التي يحتاج إليها. ثالثًا: يرتبط بالمدى الفعلي للصواريخ التي تُطلق على المستوطنات في شمال فلسطين المحتلة. رابعًا: دوافع أمنية متعلقة بحماية أمن المستوطنات في الجليل الأعلى.
سادسًا: تؤدي الأطماع الإسرائيلية في الموارد اللبنانية من النفط والغاز- بجانب أسباب مالية ولوجستية- إلى وضع الكثير من العقبات أمام لبنان لاستخراج كنوزه والاستفادة من ثرواته. ولم يسهم اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين الجانبين (اللبناني، الإسرائيلي) بوساطة أمريكية، في 27 أكتوبر 2022، بإنهاء الخلاف على خطوط الحدود المقترحة للتنقيب عن النفط والغاز في الطرف الشرقي للبحر المتوسط، مثلما لم تتوقف محاولات الاحتلال الإسرائيلي المتواترة للمطالبة بإلغاء الاتفاقية، لاسيما خلال عدوانه الأخير على لبنان، وتعديلها للاستيلاء على مساحات إضافية من المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية، في حين أن مماطلته في تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار يعرقل مساعي لبنان لتفعيل أعمال التنقيب عن الغاز وصولًا إلى استغلال موارده المتاحة من النفط والغاز، بعد التعثر الذي واجهته المحاولات السابقة.
سابعًا: تعتبر منطقة الجنوب اللبناني، ذات الموقع الإستراتيجي المهم، مطمعًا دائمًا للاحتلال الإسرائيلي ومركزًا للصراع معه منذ سنوات طويلة؛ حيث تشكل حدودها مثلثًا مع الحدود السورية والفلسطينية، وتضم 5 مخيمات للاجئين الفلسطينيين. ومن هنا، يسعى الجيش الإسرائيلي، من وراء خروقاته المتواصلة لاتفاق وقف إطلاق النار، إلى تغيير الخارطة الجغرافية في جنوب لبنان، وتثبيتها لاحقًا في محاولة فرض واقع جغرافي وأمني جديد، وتفريغ (الجنوب، البقاع، والضاحية الجنوبية لبيروت) من معظم سكانها، وخلخلة التوازن المجتمعي جغرافيًّا، عبر النزوح من تلك المناطق- ذات الأغلبية الشيعية- إلى الداخل اللبناني، مثل: غرب بيروت التي يتواجد فيها الأغلبية السنيَّة، باعتباره أحد أبرز أهداف العدوان الإسرائيلي ضد لبنان. إلا أن الوعي المجتمعي وصمود المقاومة الإسلامية وإدراك القوى السياسية اللبنانية لأبعاد العدوان، أسهمت في إحباط مخططاته.
ثالثًا: التداعيات على المشهد الداخلي اللبناني.
أولًا: رغم الاستقرار النسبي في الساحة اللبنانية، الذي أسهم في تحقيقه توافقُ القوى السياسية اللبنانية على اتخاذ خطوات متسارعة لضبط المشهد السياسي الداخلي، بانتخاب مجلس النواب اللبناني العماد “جوزيف عون” رئيسًا للجمهورية، في 9 يناير 2025، وتكليف القاضي “نواف سلام” في 13 يناير 2025، برئاسة الحكومة اللبنانية الجديدة، التي تم الإعلان عنها في 8 فبراير 2025، في مؤشر مهم لتجاوز الانقسامات السياسية والخلافات الداخلية وتأكيد سيادة الدولة ومسعى تعزيز دورها وبسط سيطرتها على كامل الأراضي اللبنانية، والاستعداد لإجراء الانتخابات النيابية في عام 2026_ إلا أن مماطلة الاحتلال الإسرائيلي في الانسحاب الكامل من جنوب لبنان، وخروقاته المستمرة لتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، سعيًا منه لاستكمال مخططه الذي فشل في تحقيقه في أثناء حربه ضد لبنان، قد ينذر بانهيار الاتفاق ويهدد بتجدد الصراع مع “حزب الله”.
كما من شأن ذلك أن يُوجه ضربة قاسية لجهود القيادة اللبنانية الجديدة في التصدي للأزمات الاقتصادية والاجتماعية الممتدة منذ سنوات طويلة، وراكمها العدوان الإسرائيلي سوءًا، مما سيضيف إليها تحديات أخرى متصلة بتنفيذ القرار 1701، وتثبيت اتفاق وقف إطلاق النار، والانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي اللبنانية، فضلًا عن تبعات أطماعها في لبنان.
ثانيًا: تمثل الأطماع الإسرائيلية في لبنان جزءًا وثيقًا من رؤية “نتنياهو” الأشمل “لتغيير وجه الشرق الأوسط”، وفق تصريحه 17/3/2025، ضمن مخطط أمريكي – إسرائيلي قديم يتم استحضاره اليوم وسط استمرار حرب الإبادة ضد قطاع غزة، منذ 7/10/2023، رغم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في 15 يناير 2025، والذي دخل حيز التنفيذ في 19 يناير منه، ومساعي تهجير الفلسطينيين، والعدوان على لبنان، مما يهدد الاستقرار اللبناني النسبي، ويجعل المنطقة على حافة تصعيد إقليمي خطير يريده “نتنياهو” لإيجاد بيئة الفوضى وعدم الاستقرار الحاضنة “لحُلمه” المنشود بتغيير الشرق الأوسط وفرض الهيمنة عليه وتبوؤ الكيان المُحتل لمكانة “الدولة” المركز فيه.
ويبدو أن العقلية الأمريكية – الإسرائيلية، والغربية عمومًا، تصر على الزَّج بصيغة الشرق الأوسط الجديد “القديم” بنسخته المستحدثة في المنطقة، رغم فشل المحاولات السابقة، أسوة بأطروحة “الشرق الأوسط الجديد” الذي وعدت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة “كونداليزا رايس” بولادته من ثنايا العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006، ويشكل امتدادًا طبيعيًّا لمشروع “الشرق الأوسط الكبير” الذي أعلنه الرئيس الأمريكي السابق “جورج بوش” عقب احتلال العراق عام 2003، باعتباره “توأمًا” لوعود رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق “شمعون بيريز” بشرق أوسط جديد في أوائل تسعينيات القرن الماضي.
إلا أن عدم تقبُّل منظومة النسيج المجتمعي (السياسي، المدني) ويقظة المقاومة وتنبهها لمقاصد المشروع الأمريكي – الإسرائيلي، أدى إلى عرقلة تنفيذ المشروع حتى الآن، مما دفع “واشنطن” لإعادة صياغة أطره بما ينسجم مع مصالحها الإستراتيجية في المنطقة، ويأخذ بالاعتبار التطورات القائمة كجزء من عملية أوسع تستهدف تغيير قواعد اللعبة بالمنطقة وليس في لبنان وحده، عبر محاولة فرض “شرق أوسط جديد” يولد من رحم الأزمة اللبنانية، على أن تتولى الولايات المتحدة الأمريكية -بعد ذلك- تقويم نتائج ما أنجز عسكريًّا وسياسيًّا؛ لبحث كيفية استثماره وتوظيفه في إطار خططها الخاصة بإيران والمشهد العربي الإقليمي، مما يهدد أمن واستقرار المنطقة.
وفي المحصلة، وحتى كتابة هذه السطور، لم يكن الاحتلال الإسرائيلي قد نفذ اتفاق وقف إطلاق النار والتزم بالانسحاب الكامل من جنوب لبنان، وليس بعيدًا عن منظوره الاستعماري، أن يسعى بكل السبل التوسعيَّة لإبقاء قواته جاثمة سبيلًا لتنفيذ أطماعه القديمة في الثروات والأراضي اللبنانية، بما يهدد بانهيار الاتفاق الهش وتوسيع العدوان وتجدد المواجهة مع “حزب الله”، والمساس بأمن واستقرار لبنان والمنطقة. إلا أن الوعي المجتمعي وصمود المقاومة الإسلامية وإدراك القوى السياسية اللبنانية لأبعاد هذا المخطط، من شأنها أن تسدَّ المنافذ أمام تحقيقه.
([1]) الكتاب المقدس، جمعية التوراة البريطانية والأجنبية، القاهرة، 1938.
([2]) التلمود: يحوي مجمـوع التعـاليم اليـهودية التي نقـلها الأحبار اليـهود تفسيرًا للعـهد القــديم واستنبــاطًا من أصوله؛ حيث يغـطـي كل جـوانب الأنشـطة الدينـية والدنيـوية في الحـياة اليـهودية، وهـو يعتبـر مقـدسـًا من اليـهود جميعًا باستثناء “السامريين” و”الصدوقيين” و”القرائين”، وهي طوائف يهودية، الذين لا يعترفون إلا بنصوص العهد القديم دون التلمود لكونه غير مُوحى به من الله تعالى، في حين يذهب الفريسيون إلى اعتبار التلمود أكثر قداسة من التوراة.
([3]) سفر التكوين، الإصحاح (16).
([4]) سفر الخروج، الإصحاح (6).
([5]) سفر العدد، الإصحاح (34).
([6]) سفر التكوين، الإصحاح (15).
([7]) سفر التكوين، الإصحاح (19).
([8]) سفر يشوع، الإصحاح الأول.
([9]) سفر الخروج، الإصحاح (34).
([10]) سفر التثنية، الإصحاح (7).
([11]) سفر التثنية، الإصحاح (20)
([12]) سفر العدد، الإصحاح (33).
([13]) سفر أرميا، الإصحاح (1).
([14]) سقر القضاة، الفصل (1).
([15]) Sanhedrin, 58 ورد في: أوغست روهلنغ، الكنز المرصود في قواعد التلمود، ترجمة يوسف نصر الله، دار العلوم، بيروت، 1987، ص152.
([16]) Abodah Zarah, p. 20.. ورد في المرجع نفسه، ص153.
([17]) Polemik., p. 16.. ورد في: بولس مسعد، همجية التعاليم الصهيونية، دار الكتاب العربي، بيروت، 1969، ص152.
([18]) صدر القرار 1701 عن مجلس الأمن الدولي في 11 آب 2006 بهدف إنهاء الحرب بين الجانب الإسرائيلي و”حزب الله” في جنوب لبنان بعد 34 يومًا من الصراع، ويتضمن بنودًا عدة من أبرزها: وقف إطلاق النار، ومطالبة الحكومة اللبنانية وقوات الأمم المتحدة “اليونيفيل” بنشر قواتهما في مناطق الجنوب، وبشكل موازٍ، مطالبة حكومة إسرائيل بسحب جميع قواتها من جنوب لبنان، وبسط سيطرة الحكومة اللبنانية على جميع الأراضي اللبنانية وممارسة سيادتها عليها، واحترام الخط الأزرق، وهو الحدود المعترف بها دوليًّا بين إسرائيل ولبنان، وإنشاء منطقة بينه وبين نهر الليطاني خالية من أي أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة، بخلاف ما يخص حكومة لبنان وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان.

