أبو حويله يكتب: ولد الهدى... الحلقة السابعة

{title}
أخبار الأردن -

 

سلسة من إضاءات في حياة سيد الخلق صل الله عليه وسلم ، تسعى لإضاءة جوانب مختلفة من حياته، تهدف إلى إحداث نقله من الفهم النظري إلى التطبيق العملي، الذي قد يخرجنا ويخرج الأمة من هذا الوضع الذي نعيش فيه.

قصي وهاشم والإيلاف ...

بطون متفرقة حول الحرم في بيئة قاسية لا تعرف الرحمة، عندها تصبح العشيرة هي الملجأ الوحيد الذي يحميك ويحمي حياتك، ولكن قد تكون قبيلتك قليلة العدد أو متفرقة، وتضطر معها للدخول في تحالفات للحماية، وهذا ما حدث مع قصي بن كلاب بن مرة بن فهر، الجد الرابع للرسول صلى الله عليه وسلم.

هو مؤسس الوجود القرشي في مكة، وهو الذي انتزع السلطة على الحرم من خزاعة أخوال أبنائه، بمواجهة مسلحة بدايةً وتحكيم لاحقًا، وبعدها ظهر الوجود القرشي كسَدَنة للبيت وجيران للحرم. أدرك قصي أن البيت هو نقطة إجماع ديني وجذب اقتصادي ونفوذ سياسي، فأراد أن يربط قريش بالبيت.

لم تكن العرب تسكن بجوار البيت أو في الحرم سابقًا، وكان الأمر مستهجنًا أن يقوم أحدهم بذلك. كانوا يؤدون عباداتهم في النهار ويخرجون من الحرم ليلًا، ولم تكن قريش وحدة قبلية متماسكة قبل قصي، ولم تكن في كثرة ولا منعة ولا شدة بأس قبل قصي، ولذلك لجأ إلى الحيلة في جعلهم سدنة البيت، بأن دخل البيت مع قريش نهارًا وظلوا في الحرم حتى طلعت عليهم شمس اليوم التالي، وبالتالي تفاجأت العرب بهم وبتجمعهم حول البيت بعد أن كانوا متفرقين، ولم يُصبهم سوء، فأصبح الأمر واقعًا.

ولتعزيز هذه المكانة قام بالسقاية والرفادة للحجاج والزائرين للبيت، وحيث إن البيت كان مقدسًا لمعظم العرب، إلا قلة قليلة لم تكن تزوره أو تقدسه، منهم بنو تميم وبنو أسد وغيرهم، وهؤلاء ستكون لهم قصة بعد ذلك. واحتفظ قصي باللواء، وهي قيادة الجيش، والندوة، وهي الإشراف على دار الندوة التي أنشأها قرب البيت الحرام لتكون بيت الشورى، والحجابة، وهي سِدانة البيت، والسقاية، توفير الماء، والرفادة، وهي إطعام الحجاج.

وعند وفاته أوصى بكل هذه الأمور لابنه عبد الدار، لأنه كان كبير أبنائه الخمسة من جهة، ولضعف فيه من جهة أخرى، أراد أن يكون هذا الأمر له فيحترمه إخوانه. ولكن من قام بالدور الحقيقي هو عبد مناف. يبدو أننا نعلق في نقل الرئاسة والطريقة التي ننقلها فيها، وهذا الباب باب واسع للفتن والقلاقل والتنافس.

لم تظهر مشكلة زمن الأخوين عبد الدار وعبد مناف، ولكن جاء بعد عبد مناف هاشم، وهاشم يقوم بكل شيء، ولكن كل شيء لأبناء عمه، وهنا ظهر الخلاف بينهم. وبعدها ظهر حلف المطيبين لهاشم ومن معه، وحلف الأحلاف لبني عبد الدار ومن معهم، وانتهى الخلاف بتقسيم المهام الخمسة بين أبناء العم، فأخذ هاشم السقاية والرفادة، وهاتان ستأتيان على أموالهم وأموال قريش لاحقًا، وأخذ بنو عبد الدار اللواء والندوة والحجابة.

ما حققه البيت الحرام لقريش أكله البيت. هل هذا ما حدث، أم أن هذه الظروف ستخلق الحل النهائي لمشاكل قريش الاقتصادية والسيادية والاجتماعية؟ فقد دخلت قريش في القرن الخامس الميلادي في أوضاع اقتصادية مأساوية وفقر شديد، وظهرت بينهم عادة الاعتفار، وهي أن يذهب الرجل بأهل بيته إلى موقع معروف ويضرب عليهم خباء حتى يموتوا جميعًا من الجَدَبة التي أصابت الناس في هذا القرن.

فبلغ ذلك هاشمًا، فقام فيهم خطيبًا: "إنكم أحدثتم حدثًا تُقِلّون فيه وتكثر العرب، وتذلون وتعز العرب، وأنتم أهل البيت والناس لكم تبع، ويكاد هذا الاعتفار أن يأتي عليكم". ثم جمع كل بني أب على رحلتين للتجارة، فما ربح الغني قسمه بينه وبين الفقير من عشيرته حتى صار فقيرهم كغنيهم. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي.

وهنا يظهر الفرق بين القائد والقائد، فكم من قائد كان نعمة لقومه، وكم منهم كان لعنة ونقمة.

وبدأت رحلتا الشتاء والصيف. لاحظ هاشم أن البضاعة في أسواق اليمن، وخاصة عدن، أرخص بكثير من مثيلاتها في الشام والعراق، وذلك كان نتيجة لاضطراب طرق التجارة العالمية، أو بسبب حروب القبائل التركية في ذلك الجزء من العالم، أو بسبب المعارك التي كانت تحدث بين الفرس والبيزنطيين كل فترة من الزمن. كل ذلك خلق الفرصة المناسبة لهاشم ليستغل الوضع، ويساهم في حل المشكلة بإيجاد طريق التجارة البديل إلى غزة عبر الجزيرة العربية ومن ثم إلى أوروبا، أو إلى موانئ البحر الأحمر عبر الجزيرة العربية ومن ثم إلى الإسكندرية وبعدها إلى أوروبا.

وحتى يأمن هاشم طريق التجارة دفع الإيلاف للدول وزعماء العشائر والقبائل على هذا الطريق، ومنها التي لم تكن تزور البيت الحرام أو تقدسه. وهو شيء كان يدفعه هاشم لرؤساء القبائل من الربح، ويحمل لهم متاعًا مع متاعه، ويسوق إليهم إبلًا مع إبله ليكفيهم مؤنة الأسفار، ويكفي قريش مؤنة الأعداء. فكان ذلك صلاحًا لحال قريش وصلاحًا لهؤلاء جميعًا، ومن هنا تظهر قصة سورة إيلاف قريش، وذلك الفضل من الله الذي مَنّ به عليهم، ليكون البيت منة من جهة، والموقع منة من الجهة الأخرى.

ما فعله قصي من جهة، وما فعله هاشم من الجهة الأخرى، هو الذي أعطى قريش تلك الصورة التي كانت عليها عندما ظهر الرسول صلى الله عليه وسلم. وتلك الصورة ستكون لها أهمية قصوى في أن تستقر الجزيرة العربية، وتتوحد وتتبوأ مكانتها الدينية والاجتماعية والاقتصادية. هل كان ذلك اجتهادًا من قصي وهاشم، أم كانت الأقدار تتحرك حتى تهيئ الجزيرة لأمر جلل سيغير وجه العالم لاحقًا؟

وهذا ما حصل، وهي حياتنا تسير بين اجتهاد منا من جهة، وأقدار تتحكم بنا من جهة أخرى.

الصورة اتضحت لي بعد قراءة كتاب الربيع الأول لوضاح خنفر، والشكر له على كتابه الجميل.

تابعونا على جوجل نيوز
البحر المتوسط لإدارة المواقع الإخبارية الالكترونية