الطورة يكتب: المعلّم،حارس الفكر وجسر الحضارة النيرة

{title}
أخبار الأردن -

 

 

الكاتب:[الأستاذ: صفوت زيد الطورة]

ثمّة مهنة تتجاوز حدود الوظيفة لتغدو مصيرًا يمنح الإنسان معنى وجوده، مهنة يتجلى فيها الصفاء الإنساني بأبهى صوره، وتختصر فيها تاريخ الحضارة في صورة رجل يحمل طبشورة وكتابا، ذاك هو المعلّم؛ السراج الذي يضيء دروب الآخرين بينما يحترق قليلا في كل لحظة، والفارس الذي يواجه ظلام الجهل بسلاح من نور وكلمة، فهو ليس مجرد موظف عابر في مؤسسة تعليمية، بل ذاكرة الأمة وضميرها الأخلاقي والفكري، فمنه تنطلق الحكاية الكبرى للوعي الإنساني، وعندما يحين يومه العالمي، لا يكون مجرد احتفال عابر، بل إيماءة وفاء لمن جعل من الكلمة وطنا، ومن السبورة منبرا، ومن التعليم طريقا إلى الخلود.
فمن هنا تعود بنا الذكرى إلى رنين الجرس الأول ورائحة الطباشير الملتصقة بذاكرة الطفولة، وصوت المعلّم وهو ينقش أولى ملامح الوعي فينا، لنكتشف أن التعليم لم يكن درسا في كتاب، بل انفتاحا على الوجود، وأن كل حروف الأبجدية كانت سلما صاعدا نحو إنسان أوسع إدراكا وأبهى إنسانية، فالمعلّم لا يكتفي بتلقين الحرف، بقدر ما يغرس في العقل حب السؤال، وفي القلب شرف السعي إلى الحقيقة، فيعلمنا كيف نفكر لا كيف نحفظ، وكيف نبحث عن الحكمة لا عن الإجابة الجاهزة، ليصبح بذلك الثابت الوحيد في معادلة التغير، وحارس العقل حين تضطرب القيم، ومهندس الوعي في زمن تخنق فيه الفكرة تحت ركام المظاهر، حيث لا تقاس الأمم بما تبنيه من أبراج أو بما تمتلكه من خزائن، بل بما تخرجه من عقول رباها معلّم حكيم مؤمن برسالته، ومن ضوء هذه العقول أدركت أن المعلّم الحقيقي لا يورّث المعرفة فحسب، بل يورّث طريقة النظر إلى العالم ويغرس في الطلاب شغف البحث وفضيلة الشك الإيجابي، وهذا ما أحسست به شخصيا مع أبي، الذي كان أحد أولئك النبلاء الذين جسدوا المعنى الأسمى للتعليم، فكان يخرج إلى مدرسته مع الفجر كما يخرج المصلي إلى محرابه، يحمل حقيبته كما يحمل المؤمن قلبه، ويعود وقد ترك شيئا من روحه في كل عقل علمه وفي كل شعاع نور أوقده، ليعلمنا أن الكلمة مسؤولية، وأن العلم لا يكتمل دون خلق وسكينة، وأن غرس الفكرة الإيجابية في عقل طفل أبلغ أثرا من ألف خطبة، مؤكدا أن التعليم جهاد نبيل يضيء الطريق للأجيال القادمة.
ومع ذلك، يجد المعلّم نفسه اليوم في واقع مرهق، تختصر فيه رسالته في الأجر والمناهج والأرقام، وبالرغم من كل هذا، ينهض صباحا في صمت، كجندي يواجه الجهل بإيمان لا يلين، فيعيد للعقل اتزانه، وللنظام معناه، وللإنسان صورته التي كادت تضيع بين السرعة والسطحية، مؤمنا أن التربية قبل التعليم، وأن بناء الإنسان يسبق بناء المؤسسات، وأن الكلمة الواعية أعظم استثمار في مستقبل الأمة، ليظل العمود الفقري لكل نهضة، والبذرة الأولى لكل فكرة، والمقدمة الضرورية لكل حضارة، والصوت الهادئ الذي يحول الضجيج إلى موسيقى.
وحين يغيب، نكتشف متأخرين أنه كان الجسر بين الماضي والمستقبل، وأن كل ما بعده امتداد لصمته النبيل، ومن هذا الصمت المضيء يبقى المعلّم في جوهره المعادل الأرضي للنور، يختفي جسده ويبقى نوره فينا دليلا، فهو من وهبنا القدرة على السؤال حين كانت الأسئلة تخيف، ومن علمنا أن الفكر لا يستعار من أحد، فكما لكل إنسان أب بالجسد، فإن للمجتمعات آباء بالروح، وهم المعلّمون الذين صاغوا وعيها من الطين والحلم.
ومن بين المعلمين، يظهر تأثير والدي في حياتي، فصوته حاضر معي في كل لحظة، خاصة حين أمسكت قلما وكأن السبورة التي كتب عليها لم تمح بل انتقلت إلى قلبي، ومن ضوء أمثاله تشتعل دروب الأجيال، فيبقى المعلّم خالدا بقدر ما يورّث من فكر وإيمان وحياة.
فسلام على الذين علمونا كيف نبصر لا كيف نطيع، وعلى الذين جعلوا من الطباشير عصا سحرية تحول العتمة إلى يقين، وعلى الذين آمنوا أن الأمة التي تكرم معلّمها إنما تكرم نفسها، فما خلد إنسان إلا بما علم، ولا ورّثت حضارة إلا بحبر صادق على سبورة الخلود.

تابعونا على جوجل نيوز
البحر المتوسط لإدارة المواقع الإخبارية الالكترونية