الدباس يكتب: هل سيتحول التلفزيون الأردني من صانع هوية.. إلى لاهثٍ وراء الترند..
محمود الدباس - أبو الليث..
منذ أن عرف الأردنيون الشاشة الأولى.. كان التلفزيون الأردني.. أكثر من مجرد وسيلة إعلام.. كان المؤسسة الأم.. والذاكرة الوطنية.. التي حفظت تفاصيل اللحظة الأردنية.. صوت الدولة حين أرادت أن تخاطب شعبها.. وصوت الشعب حين أراد أن يرى نفسه في مرآة رسمية واسعة..
لكن هذه المكانة المهيبة.. لم تأتِ من فراغ.. بل من رسوخ رسالته.. ومن صدقيته حين كان المنبر الأوسع انتشاراً.. والنافذة الوحيدة.. التي تربط الداخل بالعالم.. ولذلك فإن أي خطوة يتخذها اليوم.. لا تُقاس بعدد المشاهدات المؤقتة.. بل بميزان أعمق.. ميزان الثقة.. والرسالة.. والهوية..
ومع هذا الإرث الثقيل.. يطل خبر أثار الكثير من التساؤلات.. اتفاق التلفزيون مع أحد المؤثرين.. أو هواة التمثيل على وسائل التواصل الاجتماعي.. لإنتاج مسلسل قصيرٍ من خمس عشرة حلقة.. بكلفة بلغت قرابة نصف مليون دينار.. أي حوالي 32 ألف دينار للحلقة الواحدة.. وهنا يبرز السؤال.. هل هذه هي الطريق التي يجب أن يسلكها التلفزيون الأردني؟!..
التفاصيل التي تبدو صغيرة في ظاهرها.. هي التي تحمل الشيطان بين سطورها.. كم ستكون مدة الحلقة؟!.. وما الرسالة التي ستقدمها؟!.. وهل هو مسلسل متواصل.. أم في كل حلقة موضوع.. ولن استبق الأمر واقول سخيف؟!.. وهل تتماهى طبيعة العمل.. مع فلسفة الإعلام العام الذي لا يُبنى على الضجيج اللحظي؟!.. وكم عدد الممثلين.. أو الهواة الذين سيشاركون فيه؟!.. وهل سيُسمح للمؤثر بنشره عبر صفحاته.. ليخطف المشاهدين بعيداً عن الشاشة الوطنية؟!.. ويصبح ما يربحه مضاعفاً؟!..
الأخطر أن هذه التساؤلات.. تأتي في وقت يعاني فيه التلفزيون من أزمة مالية خانقة.. ووسط مطالبات موظفيه بتحسين أوضاعهم.. فكيف يمكن أن يُبرم عقد بهذا الحجم.. بينما المؤسسة تعجز عن تلبية أبسط استحقاقات كوادرها؟!.. ألا يبدو الأمر.. وكأننا نغامر بمصداقية المؤسسة.. من أجل لهاث وراء الترند؟!..
التلفزيون الأردني.. ليس قناة تجارية.. تبحث عن إعلان سريع.. ولا منصة شخصية.. تعيش على ضجيج اللحظة.. إنه الإعلام الوطني العام.. المنوط به.. أن يحافظ على الذائقة.. وأن يبقى صانعاً للهوية.. فإذا ما انزلق إلى أعمال ضعيفة.. بحجة جذب المتابعين.. فقد وضع صورته على المحك..
المطلوب اليوم.. ليس إغلاق الباب في وجه الشباب.. أو المؤثرين.. بل وضع معايير صارمة وواضحة لما يُعرض على الشاشة.. معايير تحفظ الهوية الوطنية أولاً.. وتلتزم بالجودة الفنية ثانياً.. وتعكس الفائدة المجتمعية ثالثاً.. وتتنوع بما يخدم جميع الفئات.. وتضمن استدامة الإنتاج الراقي.. لا الفقاعات العابرة..
فالمشاهد الأردني لا يطلب المستحيل.. كل ما يريده.. أن يرى نفسه في صورة جميلة على الشاشة.. وأن يجد عملاً يليق بمستوى التلفزيون.. الذي اعتاد أن يكون مرجعاً.. لا مقلداً.. وأن يشعر.. أن المؤسسة التي تمثل صوته.. تحترم عقله وذوقه..
ويبقى السؤال الأشد إيلاماً.. إلى أين تنوون أن توصلونا أيها القائمون على هذه المؤسسة؟!.. وإلى أي مستوى ستنزلون بالشاشة الوطنية.. التي ورثناها رمزاً وهوية؟!.. ألا تدركون أنكم لا تفرطون بميزانية فحسب.. بل بذاكرة وطن.. وإرث أمة؟!..
فانتبهوا.. فالتاريخ لا يرحم.. والجمهور لا ينسى..

