أبو رمان يكتب: الجامعات والأحزاب؛ مؤشرات وفجوات
محمد أبو رمان
في مقاربة النتائج الأخيرة لاستطلاع الرأي الذي أجراه معهد السياسة والمجتمع على عينة قاربت 900 طالب من ثماني جامعات حكومية، يمكن القول إنّ الأرقام تحمل في طياتها أكثر من رسالة إلى صانع القرار وإلى الأحزاب والهيئة المستقلة للانتخاب ووزارة الشؤون السياسية والبرلمانية. فالنتائج، وإن بدت للوهلة الأولى متناقضة أو حتى «مقلقة»، إلا أنّها في العمق تكشف عن فرصٍ يمكن البناء عليها في المرحلة المقبلة لتطوير الأجندة الوطنية الخاصة بإدماج الشباب الجامعي في العمل العام والسياسي والحزبي.
الملمح الأبرز في هذه الأرقام يتمثل في النظرة الإيجابية الواسعة لدى الطلبة تجاه مخرجات لجنة التحديث السياسي، إذ أشار 95% منهم إلى أنّ تخفيض سن الترشح إلى 25 عاماً عزّز من مشاركة الشباب السياسية، فيما رأى 85% أنّ الأحزاب مؤسسات مهمة في تطوير الحياة السياسية. والأكثر دلالة أنّ 62% من الطلبة أكدوا أن الأحزاب استطاعت – بعد مخرجات اللجنة – إحداث فرق ملموس في المشهد السياسي. هذه النسب العالية تعكس قبولاً شعبياً وشرعية سياسية للتشريعات الجديدة، وهو ما يعني أنّ مشروع التحديث السياسي حظي بقاعدة شبابية واسعة ترى فيه مساراً ضرورياً.
لكن الوجه الآخر للصورة يظهر فجوة واضحة حين ننتقل من الموقف النظري إلى الممارسة العملية. فـ90% من الطلبة لم يشاركوا في أي نشاط سياسي أو حزبي، ونحو 68.5% لم يطّلعوا على منصات الأحزاب الإلكترونية، فيما لم يقرأ 70% برامجها الانتخابية. النسبة المشاركة فعلياً لا تتجاوز 9%. هذه الفجوة بين التأييد النظري والانخراط العملي هي ما ينبغي أن يشكل محور التفكير في المرحلة المقبلة.
هل تمثل هذه الأرقام نذيراً سلبياً أم بشائر إيجابية؟
هي أقرب إلى أن تكون مؤشراً إيجابياً، إذا ما وضعناها في سياقها التاريخي والسياسي. فالمسار الإصلاحي ما يزال في بداياته، والأحزاب – خاصة الجديدة منها – لم تترسخ بعد كمؤسسات ذات حضور مؤثر. كما أنّ الثقافة السياسية السائدة عربياً وأردنياً تقوم على الحذر من العمل الحزبي والابتعاد عنه، وهي ثقافة متجذّرة عبر عقود من التجارب المعقدة مع السياسة. بالتالي، من غير الواقعي أن نتوقع تحولاً جذرياً خلال عامين أو ثلاثة أعوام فقط؛ فبناء ثقافة حزبية ديمقراطية يتطلب تراكماً زمنياً وتجريباً مستمراً، إضافة إلى تغيير تدريجي في نظرة الإدارات الجامعية والأهالي الذين ما يزالون يحملون بدورهم مخاوف من الانخراط السياسي الحزبي لأبنائهم.
مع ذلك، لا يمكن تجاهل أنّ ثلث الطلبة تقريباً اطّلعوا على منصات الأحزاب أو برامجها، وأنّ 10% شاركوا في أنشطة سياسية فهذه الأرقام، رغم تواضعها، ليست بلا معنى، بل تمثل مؤشرات على بداية تشكل سلوك جديد يمكن البناء عليه؛ في هذا المستوى، فإنّ المقارنة مع الحالة العالمية تكشف أنّ عزوف الشباب عن الأحزاب ليس حكراً على الأردن أو المنطقة، بل هو اتجاه عالمي حتى في الديمقراطيات الراسخة، إذ تراجعت معدلات العضوية والانخراط الحزبي لأسباب ثقافية واقتصادية وسياسية متعددة، فالنسب الأردنية ضمن هذا الإطار ليست متأخرة بل تبدو منسجمة مع السياق الدولي.
الأولوية في المرحلة المقبلة يجب أن تذهب باتجاه سد الفجوات وتحويل القبول النظري إلى مشاركة عملية، عبر مسارين متوازيين: الأول يتمثل في تسهيل وصول الطلبة إلى منصات الأحزاب الرقمية وتطوير المضمون الذي تقدمه ليكون أكثر جاذبية وبساطة وارتباطاً بالواقع الجامعي والشبابي. والثاني يتمثل في تطوير دور الجامعات نفسها – وخصوصاً عمادات شؤون الطلبة – بحيث تتحول إلى مؤسسات تدعم النشاط الحزبي والسياسي بدل أن تتوجس منه، وتعيد صياغة رؤيتها لدور الجامعة في ظل مشروع التحديث السياسي.
الجامعات، في النهاية، ليست مؤسسات للتدريس فقط، بل مصانع للقيادات ولجيل المستقبل. وفي زمن الذكاء الاصطناعي والتحولات السريعة، يصبح بناء الشخصية القيادية والثقافة الوطنية والسياسية جزءاً لا يقل أهمية عن التخصص الأكاديمي. من هنا، فإنّ التحديث السياسي لا ينبغي أن يُقرأ فقط كمسار حزبي أو انتخابي، بل بوصفه مشروعاً لتجهيز جيل شاب مسيّس، واعٍ، ومؤهل لقيادة التحديات المقبلة. هذه هي الرسالة الأعمق التي تكشفها أرقام الاستطلاع، وهذه هي المهمة التي تنتظر الجامعات والأحزاب وصانع القرار السياسي في الأردن.

