أبورمان يكتب: الأردن يقرأ التحول.. ما بعد «الدوحة»
ليس المهم اليوم الجدل حول ما كان يمكن أن تفعله القمة العربية–الإسلامية في الدوحة أكثر مما فعلت. المهم أنّ الضربة الإسرائيلية لقطر أعادت ترتيب المشهد، فصار واضحاً أن الصراع لم يعد محصوراً في غزة أو على حدود لبنان وسوريا، بل دخل إلى قلب الخليج نفسه، وهذا وحده كافٍ ليفرض على العرب طريقة تفكير جديدة، حتى لو لم نتوقع منهم ردوداً عسكرية أو خطوات صاخبة. الحدث بذاته غيّر قواعد اللعبة، ويفرض تصورات وديناميكيات جديدة وإلاّ فإنّ الكلفة ستكون مضاعفة أكثر بكثير مما حدث حتى الآن!
منذ عشرة أعوام تقريباً، في حقبة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، تدحرجت وتطورت في الخليج فكرةٌ عملية تقول إنّ الأمن الخليجي يمكن أن يُدار بمعزل عن نطاق الشرق الأوسط، فالأولويات يفترض أن تُعرَّف من الداخل: الاقتصاد، التحوّل، الطاقة، الملفات القريبة. التهديد الرئيس هو إيران وسلوك أذرعها، أما إسرائيل فتُدار علاقتها عبر «السلام الإقليمي» والتشابك الاقتصادي، على أمل أن تُحجَّم القضية الفلسطينية وتُترك في إطار يمكن احتواؤه. جاءت حرب غزة لتخلخل هذه الفكرة، ثم جاءت ضربة الدوحة لتكسرها تماماً: لا فصل بعد اليوم بين أمن الخليج وما يجري شمالاً؛ فالمسرح واحد، والتداعيات متداخلة.
هذا التحوّل يفرض إعادة تعريف للخصوم والحلفاء ومصادر التهديد، في الخليج اليوم إدراكٌ يتزايد بأنّ السياسات الإسرائيلية الراهنة لا تتوقف عند حدود غزة، بل تتعامل مع الجوار العربي بذهنيّة الهيمنة الإقليمية، وهو أمر يشكل هاجساً كبيراً للخليج وأمنه. من هنا نفهم لماذا أصبحت شروط التطبيع لدى الرياض أكثر صرامة ومباشرة: حديثٌ واضح عن دولة فلسطينية قابلة للحياة، وضمانات سياسية وأمنية حقيقية، ورؤية مرتّبة لليوم التالي في غزة، بالإضافة إلى مقاربةٍ واقعية لملفات الإقليم الأخرى كسوريا، وسياسات تتصادم بصورة كاملة مع منظور اليمين الحاكم في إسرائيل، فلم يعد التطبيع «هدية مجانية»، بل تسوية مشروطة بمخرجات ملموسة.
في المقابل، تدفع الضربة القطرية باتجاه توسيع دوائر التنسيق الإقليمي، وتعيد تشكيل المنظور الاستراتيجي لمختلف دول المنطقة، ومن ذلك التقارب الخليجي- التركي اليوم، والتصورات المشتركة لخطورة سياسات نتنياهو وللاستقرار الإقليمي، ويوسع احتمالات تعزيز التعاون والحوار معها خلال المرحلة القادمة، بوصفها قوة إقليمية يمكن أن تساعد في إعادة تصميم وتشكيل مفهوم «توازن القوى» الإقليمي وصياغة معادلة أكثر صلابة في ردع سياسات نتنياهو.
عندما ننظر إلى الصورة الواسعة The Big Picture ؛ فإنها تكرس مفهوم الأمن الإقليمي المشترك والعام، فما يجري في لبنان يرتدّ على سوريا ويتفاعل مع الأردن، ويؤثر على أمن العراق أيضاً. والأردن، بحكم الجغرافيا والدور الاقليمي، يقف في نقطة حساسة بين المشرق والخليج، ومصر ليست خارج ذلك، بل تتأثر مباشرة بأي توتر على حدود غزة وسيناء اقتصاديّاً وأمنياً وسياسياً، ولا تستطيع الانكفاء عن الملفات الإقليمية المحيطة؛ فنحن أمام مسارات ملموسة تتداخل فيها الأبعاد الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتنعكس على الداخل السياسي في الخليج كما في المشرق.
إذا تحكمت المخاوف بالحكومات العربية من الصدام مع إسرائيل أو حتى إدارة ترامب، فالكلفة ستكون كبيرة جدًا. ليس فقط لأنّ إسرائيل تتمدّد وتهدّد الأمن الإقليمي، بل لأنّ ذلك سيرتدّ إلى الداخل وعلاقة الحكومات بالمجتمع وينعكس على سؤال الشرعية السياسية، ويُغذّي التوتر وعدم الاستقرار، فلا مجال اليوم لمواقف ضعيفة ولا يجدي التلكؤ في مواجهة الواقع الجيو سياسي الجديد، ولا يكفي دور الوساطة في ما يحدث في فلسطين؛ وإذا كان الرئيس الأميركي دونالد ترامب هو الوحيد القادر على وضع حدود لسياسات نتنياهو، فإنّه لن يكون مضطراً لذلك (ومواجهة اللوبي الصهيوني) إذا لم يتأكد أنّ كلفة مواقفه مع نتنياهو ستكون كبيرة جداً، ومن الواضح من تصريحات مايك روبيو أمس حول حماس والحرب في غزة أنّ إدارة ترامب أبعد ما تكون عن هذه القناعات!
الأردن قرأ التحوّل مبكرًا. منذ بداية حرب غزة وضع خطًا أحمر ضد التهجير وغيّر لغته مع حكومة نتنياهو، وفي قمة الدوحة كان الملك عبد الله الثاني واضحًا حين وصف تلك الحكومة بالمتطرف ة وربط الاعتداءات بسياسات الإبادة في غزة والضفة وبتهديد أوسع للمنطقة.

