ابو رمان يكتب : قضي الأمر
محمد أبو رمان
قد يكون خطاب وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، في مجلس الأمن ضد إسرائيل (الأسبوع الماضي- خلال جلسة إدانة الهجوم الإسرائيلي على قطر ومحاولة اغتيال قادة حماس) أعنف هجوم دبلوماسي، وأقسى لغة سياسية أردنية تستخدم ضد إسرائيل منذ مدة طويلة، مما يؤشّر على تحول كبير وجوهري في العلاقة مع إسرائيل.
مثل هذا الخطاب لم يأت كسورة غضب أو لحظة انفعال نتيجة السلوك الإسرائيلي، أو موقف شخصي عاطفي من الوزير، بل هو بمثابة «نقطة تحول» واضحة في الموقف الأردني، ويعكس دلالات سياسية واستراتيجية مهمة فيما يتعلّق مع حكومة بنيامين نتنياهو، التي وصفها الصفدي بالمارقة والمتطرفة؟
المشكلة الرئيسية تتمثّل في أنّ هذه الحكومة ليست قاعدة استثنائية اليوم في السياسات الإسرائيلية بل تمثل الاتجاه العام هناك Main Stream، ولا رجعة عن هذه السياسات، حتى لو جاء آخر بعد نتنياهو، لأنّنا لا نتحدث هنا عن حوادث أو مواقف جزئية بل عن تصورات استراتيجية جديدة لأمن إسرائيل وللسياسات الداخلية والإقليمية ولموقف توافقي (في أوساط القوى الإسرائيلية عموماً)، تم إقراره في الكنيست، برفض إقامة الدولة الفلسطينية بصورة نهائية، وإنهاء ما تبقى من اتفاقية أوسلو ومن دور السلطة الفلسطينية ووجودها السياسي، وعلى المدى البعيد من اعتبار مشروع التهجير للفلسطينيين والسيطرة على كل أرض فلسطين التاريخية الهدف الاستراتيجي المشترك للقوى الإسرائيلية كافّة.
من الواضح أن هذا الخطاب يترجم قناعة واضحة لدى «مطبخ القرار» في عمان بأنّ هنالك ما هو أسوأ قادم في التعامل مع إسرائيل، بخاصة سلوكها في الضفة الغربية وغزة والقدس، وهي سياسات تمسّ بصورة رئيسية الأمن القومي الأردني؛ وقد يكون أكثر ما يقلق الأردن، بالإضافة إلى الكارثة الإنسانية الكبرى في غزة، التي تعكس إصرار إسرائيل وتواطؤ إدارة ترامب على تدمير القطاع بالكامل وإجبار أهله على الخروج وإعدام فرص الحياة بالكامل، وفرض الأجندة الإسرائيلية الجديدة بالقوة العسكرية والأمنية.
والحال نفسه بالنسبة للضفة الغربية والقدس، بخاصة مع إقرار مشروع E!، الذي يمثل هو الآخر استكمالاً لقتل أي دولة فلسطينية محتملة، كما أعلن نتنياهو بكل وضوح بأنّ حدود إسرائيل هي غور الأردن وليس مستوطنة معاليه أدوميم، بمعنى: غور الأردن هو الحد الشرقي لإسرائيل. وهذا يعكس انتقال النقاش إلى قضية أوسع: مستقبل الحدود الأردنية – الفلسطينية ودور إسرائيل في صياغتها.
عدم خروج الصفدي في التعديل الوزاري، الذي أجرته حكومة جعفر حسان (بعد أقل من عام على تشكيلها)، بخلاف توقعات سياسيين وربما ترويج البعض لذلك، يؤكّد ما هو مؤكد بأنّ الوزير لا يتصرف خارج إطار قرار مؤسسي وبإشراف الملك شخصياً على إدارة السياسة الخارجية، وأنّ تصريحاته المتصاعدة في مواجهة تل أبيب تتأسس على تحولات سياسية واستراتيجية تحدث على أكثر من صعيد، منها ما يتعلّق بالضفة الغربية والقدس والوصاية الهاشمية، ومنها ما يتعلّق بمصادر التهديد للأمن والسلم الإقليمي، وفي خضم ذلك كلّه ا لاعتبارات الأمنية والاستراتيجية الاردنية المترتبة على السلوك الإسرائيلي في المنطقة والأراضي المحتلة.
بالضرورة لم تغضب تصريحات الصفدي المسؤولين الإسرائيليين فحسب (وكان واضحاً ذلك على وجه مندوب إسرائيل في مجلس الأمن وهو يتلقى كلمات الوزير النارية)؛ بل ستدفع نحو حملة إسرائيلية ممنهجة ضد الأردن، وسيكون جزءاً منها بمثابة حرب نفسية ودعاية سياسية واستخدام الأدوات الإعلامية الرقمية بصورة كبيرة وسيكون هنالك عمل كبير على عاتق الفرقة 8200 لتحقيق هذه الأهداف، وهو ما يستدعي «خطة وطنية» مدروسة ومنهجية وخطابا سياسيا وإعلاميا ذكيا، وبناء سياسات وطنية وتصورات للمرحلة القادمة تبني المنعطف الحالي، وتعزيز مصدر قوة الأردن الرئيس وهو التلاحم بين القيادة والجبهة الداخلية، والابتعاد عن الخطابات التأزيمية والمكارثية التي تسمّم المناخ السياسي في البلاد وتخلق حالة من الانقسام الضارّ وغير المجدي أبداً، والتي يمتطيها البعض ولا تخدم إلا أجندة اليمين الإسرائيلي، فقد قضي الأمر واستوت على الجودي وتأطرت المصالح الوطنية الأردنية بصورة جلية وواضحة..

