العرب وأميركا: الاقتصاد في مواجهة الانحياز لإسرائيل
د. حمد الكساسبة
تجد الولايات المتحدة نفسها أمام معادلة دقيقة في الشرق الأوسط؛ فمن جهة هناك تحالف استراتيجي راسخ مع إسرائيل يقوم على التفوق العسكري والاستخباراتي، ومن جهة أخرى هناك شراكة اقتصادية وأمنية عميقة مع الدول العربية التي تمتلك النفط والغاز والممرات البحرية والاستثمارات السيادية. ومع ذلك، تصر واشنطن على التعامل مع العرب كأدوات مالية ونفطية، بينما تمنح إسرائيل تفوقًا غير مشروط. والسؤال: إلى متى تستطيع أميركا الاستمرار في هذا النهج دون أن تدفع ثمنًا استراتيجيًا؟
لقد ارتبط النفط بالدولار منذ سبعينيات القرن الماضي عبر نظام البترودولار، مما جعل العملة الأميركية العمود الفقري للنظام المالي العالمي، ومكّن واشنطن من تمويل عجزها وترسيخ نفوذها لعقود. لكن الظروف تتغير، فمجموعة البريكس تسعى لتقليص الاعتماد على الدولار، ومع انضمام السعودية والإمارات إليها بات للعرب موقع مباشر في صياغة مستقبل النظام المالي العالمي. وأي خطوة نحو تسعير النفط بعملات بديلة قد تهز الأساس الذي قامت عليه الهيمنة الأميركية.
في المقابل، تمضي إسرائيل بدعم أميركي مفتوح لتكريس مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي يطرحه نتنياهو، والهادف إلى فرض هيمنة إسرائيلية شاملة. وتظهر ملامحه في تدمير غزة وابتلاع الضفة الغربية وتمويل خطط تهجير الفلسطينيين، إضافة إلى الضربات المتكررة ضد لبنان وسوريا وقطر واليمن. وحتى دول الخليج لم تعد في مأمن من هذه المخاطر، في ظل اتساع نطاق التهديدات الإسرائيلية.
ورغم أن إسرائيل لا تملك وزنًا اقتصاديًا يقارن بالعرب، فإنها تحظى بامتيازات عسكرية وسياسية تجعلها قاعدة متقدمة لواشنطن. أما العرب، فيمتلكون أوراق ضغط هائلة: النفط والغاز، الممرات البحرية، قناة السويس وباب المندب ومضيق هرمز، إضافة إلى صناديق سيادية تستثمر مئات المليارات في الأسواق الأميركية. وإذا وُظفت هذه الأدوات ضمن موقف سياسي موحد، فإنها تتحول إلى قوة قادرة على موازنة الدعم الأميركي لإسرائيل.
ولا يقف الأمر عند الاقتصاد، بل يمتد إلى السياسة والأمن. فأميركا تدير عشرات القواعد العسكرية في الخليج والأردن وتركيا، وإذا ربط العرب استمرار هذه التسهيلات بموقف واشنطن من الصراع، فإن كلفة الانحياز سترتفع بشكل ملموس. كما أن العرب لم يعودوا مجرد منتجين للنفط، بل أصبحوا مستثمرين رئيسيين في مشاريع الطاقة المتجددة والهيدروجين الأخضر، ما يمنحهم دورًا مؤثرًا في مستقبل أسواق الطاقة العالمية.
وفي الداخل الأميركي، لم تعد الرواية الإسرائيلية تحظى بالهيمنة المطلقة. فقد برز تيار متنامٍ بين الشباب والجامعات ووسائل الإعلام البديلة يرفض الانحياز الأعمى لإسرائيل، خاصة بعد الكارثة الإنسانية في غزة. وقد انعكس ذلك في مظاهرات واسعة وضغوط سياسية، وأدى إلى انقسام داخل الحزب الديمقراطي بين جناحه التقليدي وجيل جديد أكثر انتقادًا لإسرائيل. وهذه نافذة يمكن للعرب استثمارها عبر التواصل مع مراكز الفكر والجامعات والجاليات العربية.
أما في أوروبا، فإن الاتحاد الأوروبي لا يستطيع تجاهل مصالحه العميقة مع العالم العربي في مجالات الطاقة والتجارة والاستثمارات. ومع تصاعد الغضب الشعبي من الحرب في غزة، تبرز فرصة أمام العرب لتوحيد خطابهم ودفع أوروبا نحو مواقف أكثر استقلالية عن واشنطن. وهنا يصبح ربط الشراكات الاقتصادية بمواقف سياسية أكثر توازنًا وسيلة لتحويل التعاطف الشعبي إلى مواقف رسمية تضغط على إسرائيل حتى من داخل معسكرها الغربي.
وعلى المستوى الدولي، لم تعد السياسات الإسرائيلية تمر من دون مساءلة. فقد أصبحت بندًا ثابتًا على جدول أعمال مجلس الأمن، حيث انتهت المناقشات إلى إدانات صريحة، رغم استخدام واشنطن المتكرر للفيتو. وكان آخرها التصويت الذي أكد مجددًا على حل الدولتين كخيار أساس لإنهاء الصراع، وهو ما يعكس عزلة متزايدة للموقف الإسرائيلي. وهنا تبرز أهمية الموقف العربي: فموقف موحد وحازم قادر على تحويل هذا الإجماع الدولي إلى أداة ضغط حقيقية تربط بين الشرعية الدولية والوزن الاقتصادي للعرب.
في النهاية، تبقى الكرة في ملعب العرب. فبين أيديهم أوراق قوة كفيلة بفرض توازن جديد وحل عادل للقضية الفلسطينية. وإذا توحدوا وأحسنوا توظيف قوتهم الاقتصادية والسياسية، فإنهم قادرون على كبح الصلف الإسرائيلي وإعادة صياغة التوازنات الإقليمية. أما إذا ترددوا أو تقاعسوا، فإن النتيجة ستكون فقدان السيادة وتراجع الاقتصادات، وسيدفع المواطن العربي الثمن من أمنه ومعيشته ورواتبه، بينما تُرسم ملامح مستقبل المنطقة بعيدًا عن مصالحه.

