حدّاد يكتب: إربد: من بوابة الأزمة إلى عاصمة الإعمار والإقلاع الاقتصادي.
عيسى يوسف حدّاد.
لأكثر من عقد من الزمان، حملت إربد وحدها عبئًا يفوق طاقتها. لم تكن مجرد مدينة تستقبل لاجئين، بل كانت الملاذ الأول الذي احتضن مئات الآلاف من الأشقاء السوريين، بينما اهتزت بنيتها التحتية تحت وطأة الضغط. شهدت مدارسها ازدحامًا غير مسبوق، وتحولت عياداتها الصحية إلى ساحات صمود، وشوارعها إلى خيوط متشابكة من الصبر والتحدي. اليوم، وبعد أن دفع ثمنًا باهظًا من استقرارها الاجتماعي ومواردها، حان وقت الاستحقاق. لم يعد تعويض إربد خيارًا، بل هو دين واجب السداد، وتحويل هذا العبء إلى منفعة استراتيجية هو استثمار في مستقبل الأردن كله.
إربد ليست نقطة على الخريطة، بل هي مفتاح الجغرافيا الاقتصادية. الأرقام والوقائع تشهد لها:
· القرب الجغرافي: المسافة إلى دمشق لا تتجاوز ٩٠ كم، مما يعني توفيرًا هائلاً في تكاليف النقل والوقت والوقود مقارنة بأي موقع آخر، وهو عامل حاسم في معادلة الإعمار الضخمة.
· رصيد بشري لا يُقدَّر بثمن: وجود أكثر من ثلث اللاجئين السوريين في الأردن ضمن محافظة إربد ليس تحديًا فقط، بل هو فرصة. بينهم آلاف المهندسين، والعمال المهرة، وأصحاب الخبرات الذين يمكن أن يكونوا وقود عملية الإعمار الأولى إذا تم توظيفهم وتدريبهم بشكل صحيح.
· ذاكرة تجارية حية: حركة التبادل التجاري التي كانت تتجاوز نصف مليار دولار سنويًّا مع سوريا ليست ذكرى من الماضي، بل هي شبكة علاقات اقتصادية واجتماعية نائمة يمكن إيقاظها بسرعة فائقة.
تحقيق هذه الرؤية يتطلب خطة وطنية ذات أولوية قصوى، تقوم على:
١. تطوير البنية التحتية الحيوية فورًا: توسعة وتحديث منفذ جابر الحدودي ليتحول إلى منفذ ذكي (Smart Border) بسعة تخليص مضاعفة، مزود بأحدث أنظمة التتبع الجمركي (مثل نظام TIR). إنشاء وتطوير الطريق السريع (إربد-الحدود)ليكون مخصصًا للنقل الثقيل ومحاطًا بـ مناطق لوجستية متكاملة (Logistics Hubs) مجهزة بمستودعات ذكية ومراكز توزيع.
٢. إنشاء هيئة سيادية فاعلة: تأسيس "الهيئة العليا لإعادة إعمار سوريا" في إربد كشراكة بين القطاعين العام والخاص، على أن تُدار بأعلى معايير الحوكمة والكفاءة، وأن يُربط تمويلها واستمرارها بتحقيق أهداف وإنجازات ملموسة، وليس على أساس المحسوبية. ستمتلك الهيئة صلاحيات استثنائية لتجاوز البيروقراطية وستكون نقطة الاتصال الوحيدة للمستثمرين، مسؤولة عن الترويج، منح التراخيص، وإزالة العقبات ضمن إطار زمني محدد.
٣. حزمة حوافز لا مثيل لها في المنطقة: إعفاءات ضريبية كاملة لمدة ١٠ سنوات للشركات العاملة في قطاع الإعمار واللوجستيات. توفير أراضٍ صناعية وسياسات استثمارية بشروط تفضيلية لأبناء المحافظة لضمان استفادتهم المباشرة.
٤. إعداد الرأسمال البشري من الآن: على الجامعات الحكومية والخاصة فتح تخصصات دقيقة في إدارة سلسلة التوريد (SCM)، واللوجستيات، وإدارة المشاريع الإنشائية الكبرى، بالشراكة مع كبرى الشركات العالمية.
الخطر الحقيقي ليس في الفشل، بل في التأخر. فتركيا تنشئ مناطق صناعية على حدودها، ولبنان يعيد تفعيل موانئه. والسعودية أيضا دخلت على الخط. لذا كل يوم يمر دون action plan واضح، هو خسارة محتملة او مرجحة لمليار دولار وآلاف الوظائف لشبابنا. نحن لا ننافس فقط على الاستثمار، بل على مكانة الأردن كقاطرة للاستقرار الإقليمي.
آن الأوان لترتدي إربد التاج الذي استحقته بصبرها. الانتقال من "بوابة الأزمة" إلى "عاصمة الإعمار" هو أنجح استثمار في استقرار شمال الأردن وازدهاره. السؤال ليس: "هل نستطيع؟"، بل هو: "هل لدينا رفاهية التأخر أكثر؟".

