أبو زينة يكتب: في "مزرعة مانور"..!

{title}
أخبار الأردن -

  علاء الدين أبو زينة

“اثنا عشر صوتًا كانت تصرخ بغضب، وكلها متشابهة. لم يعُد ثمة شكّ الآن بشأن ما حدث لوجوه الخنازير. نقّلت المخلوقات في الخارج أنظارها من الخنزير إلى الإنسان، ومن الإنسان إلى الخنزير، ومن الخنزير إلى الإنسان مرة أخرى؛ ولكن كان من المستحيل فعليًا معرفةُ مَن هو مَن”.
هذا هو المشهد الختامي لرائعة جورج أورويل “مزرعة الحيوانات”: الثورة التي بدأت بوعود المساواة والعدالة انتهت إلى نظام لا يمكن تمييزه عن النظام القمعي الذي جاء ليستبدله. تقف الحيوانات، التي كانت ذات يوم ثوارًا يتطلعون إلى الحرية، وتشاهد الخنازير الذين قادوا الثورة ضد المزارع المستبد، وقد امتزجت وتجانست مع البشر الذين تعهدت بإسقاطهم. وبينما تحدق الحيوانات عبر نافذة المزرعة، يستحيل عليها التمييز بين الخنزير والإنسان.
ليست هذه خاتمة رواية متخيلة بالضبط. إنها تعليق عميق على مصير الكثير من الثورات وخيانة مبادئها، وعلى الطبيعة الدورية للقمع. إنها تصور كيف أن السلطة، بمجرد أن تُكتسب، يمكن أن تُفسد حتى أكثر المنادين بالعدالة صدقًا، وتحول المقاتلين من أجل الحرية إلى طغاة لا يمكن تمييزهم عن أولئك الذين حاربوا ضدهم في البداية.
لمن لم يقرأ الرواية البديعة التي كتبها أورويل في العام 1945، تدور أحداث القصة في “مزرعة مانور”. هناك تقرر الحيوانات الثورة ضد مالك المزرعة البشري، مستلهمة أفكار خنزير حكيم يُدعى العجوز ميجور، الذي يحلم بمجتمع عادل تديره الحيوانات. وتقود الخنازير، على رأسها الخنزيران نابليون وسنوبول، الثورة وتؤسس نظامًا جديدًا تحت شعار “جميع الحيوانات متساوية.”
ولكن مع مرور الوقت وتوطيد السلطة، يتحول نابليون إلى دكتاتور مستبد، يستخدم القمع والخداع لإحكام قبضته على الحُكم. يطيح بشريكه سنوبول ويعيد بناء النظام القديم بأسلوب أكثر استغلالًا. ويتلاعب بالحيوانات بالدعاية؛ بالشرطة السرية (الكلاب)؛ وبالتغييرات المستمرة في القوانين (العبث بالدستور)، إلى أن يصبح شعار المزرعة الجديد “جميع الحيوانات متساوية، لكن بعض الحيوانات أكثر مساواة من غيرها.”
لو كان جورج أوريل حيًا لظل يشير إلى الشرق الأوسط ويهتف: “انظروا. ألم أقُل لكم”؟ كم من الانقلابات الثورية حدثت- في “الجمهوريات” العربية بشكل خاص. بنوا مشاريعهم على العدل والسلام، والمساواة والوحدة. وعندما وصلوا إلى السلطة وعدوا أولًا بالحكم لفترة انتقالية لحين إجراء انتخابات. كتبوا دساتير جديدة تنص على تداول السلطة. ثم سرعان ما سيطر عليهم اعتقاد غامر بأن الله خلقهم وكسر القالب، وبأن أي بديل عنهم سيقوّض “منجزات الثورة”. وسرعان ما عدّلوا الدساتير لتسمح بالحُكم مدى الحياة. سوف ينظر الناس إلى الحُكام الجدد ويستذكرون البائدين، فلا يعثرون على الفرق.
تذكرتُ قصة مزرعة مانور وأنا أتلقى على وسائل التواصل الفيديوهات المرعبة القادمة من سورية والضفة الغربية. في سورية، كان مشهد مذبحة “حي التضامن” الوحشي الشهير يتكرر نفسه تقريبًا. ثمة أشخاص وحشيون يتسلون بتعذيب وقتل المدنيين العُزل– أو المقاتلين العُزل الآن- المدنيين العُزل يزحفون على بطونهم، يركلونهم ويدوسون فوقهم بالأحذية، ثم يطلقون النار عليهم بلا رحمة. وفي مشاهد أقل دموية– وإنما ليست أقل وحشية- يقبضون على الشخص فينهالون عليه بضرب كضرب غرائب الإبل، بنية القتل.
في هذه المقاطع، يُسحب “المطلوبون”، ويُضربون ويُسحلون ويُعدمون في مجازر طائفية تعيد إنتاج الوحشية ذاتها التي قامت الثورة في الأصل لإنهائها. هذه ليست مقاومة ضد الطغيان، بل استمرار له بمسميات مختلفة. البنى القمعية ذاتها، والقسوة ذاتها، والاستهانة بالحياة البشرية ذاتها. سيكون من المعقول أن تقتل خصمك في الاشتباك. لكنه إذا ألقى سلاحه أو جُرد منه يصبح بلا دفاع وتحت رحمتك. وإذا كانت لديك رحمة الثائر الذي يقاتل من أجل استعادة الإنسانية، فسوف تعتقله، وتحاكمه، وتسجنه- أو تعدمه إذا خلصت محكمة عادلة إلى ذلك. لكنّ القتل الحاقد الخالي من الإنسانية، أمام الكاميرات، لا يمكن أن يكون شيمة ثائر من أجل الحرية. سوف تنظر إلى فيدو مذبحة التضامن، وفيديو من مذبحة الساحل السوري، ولن تعرف مَن هو مَن.
في الضفة الغربية، أيضًا. ثمة ثوار شُردوا من بلد إلى بلد. غادروا أمهاتهم في المخيمات والتحقوا بالمعسكرات، وعرفوا جيدًا معنى أن تكون مطاردًا ومستهدفًا بالتجريد من إنسانيتك. هؤلاء أنفسهم تحولوا من ثوار إلى “سلطة” في وطن محتل– وتشبثوا بالسلطة. وهم أيضًا صوروا أنفسهم وهم ينهالون بالضرب الوحشي على شاب من مواطنيهم مطلوب بتهمة القتال من أجل حرية شعبه. في أحد الفيديوهات يلقون بشاب “خارج عن القانون” و”يعمل لأجندة خارجية” في حاوية قُمامة. وفي حادثة ثالثة يقتحمون مستشفى لاعتقال جريح. وفي رابعة يقتلون المطلوب بالرصاص –حرفيًا. إذا كانوا يريدون أن يحموهم، فلماذا التصوير، والقسوة، والفضيحة؟ يفسره أحدهم أنه لإقناع مَن يلزم بـ”الأهلية” للقيام بالدور المطلوب. سوف تنظر إلى رجل الأمن في الضفة، ورجل أمن الاحتلال، ولا تعرِف مَن هو مَن. 
في وطن مظفر النواب الكبير “الممتد من البحر إلى البحر/ سجون متلاصقة/ سجان يمسك سجان”، تجسدت باستمرار تحذيرات أورويل بوضوح مؤلم. لم تستطع ثورة عربية واحدة أن تفلت من هذه الحتمية الأورويلية. دائمًا كان المواطنون العرب في الخارج، ينظرون من نافذة “مزرعة مانور” كبيرة، ولا يستطيعون تمييز الذين في الداخل: مَن هو الخنزير ومَن هو الإنسان؟


 

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير