الضمور يكتب: إيمانويل تود ونبوءة الانهيار بين التحليل العلمي والسنن القرآنية

{title}
أخبار الأردن -

  أ. د. هاني الضمور

في عالمٍ يتغير بسرعة مذهلة، حيث تتحول القوى وتُعاد صياغة موازين الهيمنة، يبرز صوت المفكرين القادرين على قراءة المستقبل من خلال معطيات الحاضر. ومن بين هؤلاء، يأتي الفيلسوف الفرنسي إيمانويل تود، الذي فاجأ العالم سابقًا بتنبؤه بانهيار الاتحاد السوفياتي في وقتٍ لم يكن أحد يتخيل ذلك، وها هو اليوم يطلق تحذيرًا جديدًا: الغرب يقترب من الهزيمة والانهيار.

طرح تود هذا لم يأتِ من فراغ، بل من قراءة معمقة للمؤشرات الاقتصادية، والاجتماعية، والديموغرافية التي تشير إلى أن الحضارة الغربية لم تعد كما كانت. فالولايات المتحدة وأوروبا، اللتان كانتا تمثلان رموز القوة الصناعية والعلمية، تواجهان اليوم تراجعًا في التعليم، وانخفاضًا في الإنتاج، وغيابًا للرؤية طويلة المدى. في المقابل، تظهر قوى أخرى، مثل الصين وروسيا، وهي تعزز مكانتها على المسرح العالمي، ما يهدد بتغيير معادلة الهيمنة التي سادت لقرون.

لكن المسألة ليست فقط مسألة اقتصاد أو صناعة، بل تمتد إلى القيم والهوية. يشير تود إلى أن الغرب فقد روحه، حيث تآكلت القيم التي أسست لنهضته، وتحولت مجتمعاته إلى كيانات يسيطر عليها الاستهلاك والعدمية والفردية المفرطة. لم يعد هناك ذلك التماسك الاجتماعي الذي كان يُميز الحضارة الغربية في مراحلها الأولى، بل أصبح هناك تفكك أسري، وانهيار للمعايير الأخلاقية، وغياب للبعد الروحي.

هذا التحليل ينسجم تمامًا مع السنن القرآنية التي تُظهر كيف أن انهيار القيم هو بداية سقوط الحضارات. في القرآن، تتكرر الإشارة إلى أن الأمم التي تتجبر وتبتعد عن العدل والمبادئ الأخلاقية يكون مصيرها الزوال، كما في قوله تعالى: «وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَـهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا» (الكهف: 59). الغرب، الذي كان يقود العالم على أسس قيمية قوية، فقد اليوم هذه الأسس، وأصبح أسيرًا لموجات متتالية من الأزمات الأخلاقية والاجتماعية التي لا يبدو أن هناك حلولًا واضحة لها.

الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فتود يرى أن التراجع الغربي لم يعد نظريًا، بل بدأ يظهر عمليًا في مؤشرات حيوية. روسيا، التي كانت تعاني من تفكك داخلي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، استعادت عافيتها، حيث تحسنت معدلات الولادة، وانخفضت نسب الجريمة، وتحسن المستوى التعليمي والصحي، بل إنها باتت قادرة على إنتاج أسلحة أكثر من الغرب مجتمِعًا رغم أن اقتصادها لا يمثل سوى نسبة ضئيلة من إجمالي الاقتصاد الغربي. هذه الحقيقة وحدها تجعل من الضروري إعادة التفكير في مفهوم القوة، فبينما كانت الدول الغربية تعتمد على القوة الاقتصادية كعامل رئيسي، فإن ما يحدث الآن يثبت أن الصمود الحقيقي ليس فقط في حجم الناتج المحلي الإجمالي، بل في القدرة على تحقيق الاستقلالية الذاتية، وتعزيز الصناعات الحيوية، والاستثمار في التعليم والتكنولوجيا.

من الناحية القيمية، فإن الغرب يعاني من ما يسميه تود «الوصول إلى الصفر الديني»، حيث لم تعد هناك مرجعية أخلاقية أو روحية يمكن أن توفر التوازن للمجتمع. المجتمع الذي يفقد بوصلة القيم يصبح عرضة للفوضى، وتاريخيًا، فإن كل حضارة وصلت إلى هذه المرحلة كانت نهايتها الانهيار، وهو ما نشهده اليوم في مظاهر التفكك الأسري، وانتشار الأزمات النفسية، وغياب المعنى عن حياة الكثيرين في المجتمعات الغربية. هذا السياق يتوافق مع التحذير القرآني في قوله تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَـهَا تَدْمِيرًا» (الإسراء: 16).

في الوقت نفسه، بينما تتآكل القيم الغربية، يشهد الإسلام في الغرب انتشارًا غير مسبوق. هناك تزايد في أعداد المسلمين الجدد، والسبب في ذلك أن الفطرة الإنسانية لا يمكنها العيش في فراغ روحي. عندما تفقد المجتمعات الغربية أساسها الروحي، يبدأ الناس في البحث عن معنى آخر للحياة، وهنا يبرز الإسلام كخيار يزداد جاذبية. المفارقة أن الإسلام، الذي كان يُنظر إليه في الغرب على أنه تهديد، أصبح اليوم البديل القيمي الذي يبحث عنه الكثيرون داخل هذه المجتمعات نفسها.

ما يقوله تود ليس مجرد نظرية أكاديمية، بل تحذير من أن العالم يقف على أعتاب تحول جذري. الغرب لم يعد في موقع القيادة المطلقة، وهناك مراكز قوى جديدة تتشكل، وقيم جديدة تبدأ في استعادة موقعها في الحياة العالمية. القرآن الكريم يؤكد أن تداول الأمم سُنّة كونية، كما في قوله تعالى: «إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ» (آل عمران: 140). إذا كان الغرب قد وصل إلى ذروة مجده، فإن كل الإشارات تدل على أنه بدأ يفقد هذا المجد لصالح قوى جديدة، ربما يكون الإسلام أحدها.

يبقى السؤال الكبير: هل نحن نشهد تحولًا حضاريًا غير مسبوق؟ هل سيتدارك الغرب أزمته، أم أن التاريخ يعيد نفسه ليشهد العالم نهاية هيمنة الغرب؟ الأيام القادمة وحدها ستكشف الإجابة، لكن المؤكد أن العالم كما نعرفه يتغير بسرعة قد تفاجئ الجميع.


 

تابعونا على جوجل نيوز
البحر المتوسط لإدارة المواقع الإخبارية الالكترونية