النقرش يكتب: شكراً سيد ترمب فقد بلغنا سن الفِطام.. فهل تَخِرُّ لنا الجبابرةُ ساجِدين شكراً؟
الدكتور إبراهيم النقرش
…في استراتيجيات الدول التي تخطط لبناء ذاتها وقدراتها وكرامتها وسطوتها، تُبنى على قاعدة الاعتماد على الذات في كل مناشطها السياسية والاقتصادية، وعدم الاتكال على المساعدات والمنح الخارجية. وهذا توجه الدول التي تسعى للاستقلالية الاقتصادية والتنمية المستدامة.
ومن المعلوم أن أي رئيس أمريكي يتعامل مع الدول وفق المصالح الأمريكية أولاً وليس من باب الكرم أو المحبة أو العطاء المجاني، وبالتالي من الطبيعي أن يكون العطاء مشروطاً سياسياً واقتصادياً وتحت طائلة المسؤولية.
وعليه فإن الدول لا يمكنها بناء مستقبلها بالاعتماد على المساعدات فقط، بل يجب أن تستثمر في مواردها وتطور صناعاتها لتعزيز اقتصادها الوطني وبناء ذاتها ومنعتها.
بالتأكيد فإن أمريكا وأوروبا لا يمكن أن تبقيا أُمّاً لنا تُلقماننا ثدييهما لنرضع للأبد. ونحن بالأردن ومنذُ عقود نعتمد على المساعدات الخارجية من أمريكا وأوروبا ودول الخليج ونجعل منها عماد اقتصادنا ومصدر ثروتنا وسعادتنا.
والسؤال القديم الجديد:
إلى متى سنظل نعيش على المساعدات وكأننا طفل لا يقدرُ على الفطام عن ثدي أمه؟
وهل من حقنا أن نغضب إذا قررت أمريكا وقف المساعدات وفِطامنا؟
الواجب علينا أن نفهم أن المساعدات ليست لنا حقّاً مُكتسباً بل هو قرار سياسي دوافعه مصالح الدول المانحة. وأوروبا وأمريكا لن تبقى خزائنهما مفتوحة تدفع الفواتير عنا للأبد؛ فلديهما شعوبهما وأزماتهما الاقتصادية وأولوياتهما المتغيرة ومصالحهما المتقلبة في أنحاء العالم.
الدول المانحة، وبغض النظر عن هويتها، تدفع مقابل ولاءات سياسية معينة، لا كرماً ولا حباً بنا؛ فهم لا يحبون إلا أنفسهم. وعندما تتغير المصالح، تتغير المساعدات وتتغير وجوه اليد العليا بنظرتها لليد السفلى.
بدلاً من أن نلوم أمريكا، لماذا لا نلوم أنفسنا ونحاسبها بل ونعنفها على ردائتها وتقصيرها؟
لا بل علينا أن نخجل من قصورنا لأننا منذُ عقود نعيش على المعونات وكأننا معدمون عالة على غيرنا. المساعدات تُضعف الاقتصاد وتجعل الحكومات كسولة عن تطوير اقتصادها بل وتجعل الدول تفقد السيادة السياسية والوطنية وتتفلت من عقال جلدتها، فتصبح قراراتها مرهونة بموافقة المانحين ولا تخرج من دائرة رضاهم.
لماذا لا نحاسب أنفسنا ونحاسب الحكومات المتعاقبة عن الفشل في بناء اقتصاد منتج منذ عقود؟ من المسؤول عن بقاء الأردن اقتصاداً استهلاكياً يعتمد على المعونات بدل التصنيع والتصدير؟
يجب أن نعرف من الذي أهدر الموارد في مشاريع غير منتجة وتركنا نعيش على المساعدات والمنح والزكوات وفتاتهم، ولنسترضيهم ليل نهار ونطوف على أبواب سفاراتهم مع صلاة الفجر طمعاً بالحج إلى موطنهم.
أمريكا لم تُجبرنا على الاعتماد على المساعدات، بل الحكومات وساستها من اختار هذا الطريق المريح لهم والمدمر للدولة على المدى الطويل.
ورغم أن جلالة الملك كان وما زال في كل مناسبة يؤكد على بناء الاقتصاد وتنميته، وعند التشكيل الحكومي يوجّه بكتاب التكليف السامي لمعالجة القضايا الاقتصادية من ضمن ما كان بكتب التكليف السامي الموجهة للحكومات المتعاقبة، وكأن شيئاً لم يكن…
ودأبت تلك الحكومات المتعاقبة بل وأقنعتنا بأننا دولة فقيرة بلا موارد، بينما الحقيقة مختلفة تماماً.
فالدول لا تصبح غنية فقط بامتلاكها نفطاً أو ذهباً بل لأنها تُحسن استخدام وإدارة مواردها.
والأردن لديه الكثير من الموارد التي تمّ إهمالها: فوسفات، بوتاسيوم، نحاس، سيليكا، نفط صخري، موقع بين ثلاث قارات، موارد بشرية ضخمة متعلمة قادرة على الإنتاج.
فنحن لسنا فقراء بل نُعاني من سوء الإدارة للموارد وتنميتها والفساد. نعم، هناك نُخب سياسية متحكمة، متكررة ومتنفعة، تتكرر نفس الوجوه بنفس الأسلوب الفاشل منذُ عقود في الحكومات والمجالس النيابية والمؤسسات.
هؤلاء لا يتأثرون بالبطالة أو الغلاء؛ هم في رفاهية غير واقعية قياساً على بقية الشعب.
إن هذه الحكومات التي فشلت في إدارة الاقتصاد يجب أن تُحاسب بدل أن يتم تدويرها في مناصب جديدة.
هؤلاء هم من يُخوّنون كل صوت مُعارض لهم أو إصلاحي واتهامه بأنه مثير للفتنة وضد الدولة.
وحتى هذه المساعدات والمنح يتم إهدار جزء كبير منها في الرواتب الفلكية والمشاريع الوهمية.
لو كان هناك إدارة سليمة لهذه الأموال (المليارات) لكان الأردن دولة اقتصادية قوية اليوم، ولا تراه يُصارع على حاجاته الأساسية.
فلو كان الأردن بلداً فقيراً، فكيف يعيش المسؤولون حياة الرفاهية، وهذه القصور، والسيارات الفارهة؟ ومن أين تمويل الحملات الانتخابية بالملايين؟
إذاً المشكلة ليست في الموارد بل في سوء الإدارة والفساد والاعتماد على نموذج اقتصادي فاشل وحكومات متعاقبة... نفس الشخوص تتكرر والأفكار لا يختلف فيها إلا ربطة العنق وموديل سياراتهم وشيفريتهم، وكأن النساء عجزت أن تلد غيرهم وعزّت أمثالهم…
نعم، عندما قرر ترمب وقف المساعدات للأردن غضب البعض واعتبروه عدواً، لكن الحقيقة أن هذا القرار فرصة لنا لكي نراجع أنفسنا ونعيد الحساب بيننا ونصحو من غفوتنا.
لماذا نغضب عندما يقرر الآخرون التوقف عن مساعدتنا؟ لا أعتقد أن شجرة الميلاد تجمعنا بجِد معهم لا سفلاً ولا علواً.
لماذا لا يكون لدينا اقتصاد قوي يجعلنا لا نحتاج المساعدات أساساً؟ ويبقى السؤال الشعبي المرّ بأفواهنا:
هل يمكن أن نبني اقتصاداً قادراً على تمويل احتياجاتنا دون انتظار الشيكات والهبات الخارجية؟
شكراً ترمب، لقد حان وقت الفصال والفطام.

