العرب يكتب: زمن للبيع هل يصبح الوقت سلعة المستقبل؟
د. محمد العرب
منذ أن بدأ البشر في قياس الوقت، أصبح الزمن مفهوماً جوهرياً في تشكيل حياتنا ،لكنه ظل دوماً خارج نطاق سيطرتنا، يسير بوتيرته الثابتة التي لا يمكننا تسريعها أو إبطاؤها !
ومع ذلك فإن التسارع التكنولوجي غير المسبوق في القرن الحادي والعشرين قد فتح الباب أمام احتمالية تغيير هذا الوضع جذرياً ، ماذا لو لم يعد الزمن مجرد إطار نعيش فيه، بل أصبح سلعة قابلة للتعديل، للتلاعب، وربما حتى للبيع؟ يبدو هذا السيناريو خيالاً علمياً، لكنه قد يكون أقرب إلى الواقع مما نتخيل ، التكنولوجيا الحديثة بدأت بالفعل في إعادة تشكيل فهمنا للوقت. تطبيقات تنظيم الوقت، تقنيات تحسين الإنتاجية، والذكاء الاصطناعي الذي ينجز المهام نيابةً عنا، كلها خطوات أولية نحو اقتصاد يقوم على إعادة توزيع الزمن. لكن التطور القادم قد يكون أعمق من ذلك. مع التقدم في مجالات مثل الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي، يمكننا تصور مستقبل حيث يصبح الإحساس بالوقت نفسه مرناً في الواقع الافتراضي..!
على سبيل المثال يمكن تضخيم إحساسنا باللحظات أو تقليصها. قد تجد نفسك تقضي ساعات طويلة داخل عالم افتراضي بينما تمر بضع دقائق فقط في العالم الحقيقي. هذا النوع من التلاعب بالزمن ليس بعيد المنال، ولكنه يثير تساؤلات حول ما إذا كان المستقبل سيشهد استغلالاً لهذه الإمكانية لتحويل الوقت إلى سلعة.
التلاعب بالزمن في المستقبل قد يتخذ أشكالاً متعددة. تخيل خدمات تقنية تتيح لك شراء وقت إضافي في اللحظات السعيدة، أو تسريع اللحظات التي تجدها مملة أو مؤلمة. هذا قد يتحول إلى اقتصاد زمني جديد، حيث يصبح الزمن مورداً يوزع على أساس القدرة الشرائية أو الطبقات الاجتماعية. مثلما اشترينا سرعة الوصول إلى المعلومات عبر الإنترنت، قد نشتري مستقبلاً سرعة الهروب من الشعور بالملل أو الألم، أو حتى تمديد أوقات السعادة والفرح.
لكن، كما هي الحال مع كل ابتكار تقني كبير، فإن هذا الاحتمال يثير قضايا أخلاقية عميقة. ماذا يحدث عندما يصبح التحكم بالزمن امتيازاً لنخبة قادرة على دفع ثمنه؟ هل يمكن أن يؤدي ذلك إلى تفاوت جديد في التجربة الإنسانية، حيث يتمتع الأغنياء بوقت أطول أو أكثر جودة، بينما يعيش الفقراء في عجلة زمنية خارج سيطرتهم؟ هذا الشكل من عدم المساواة الزمنية قد يصبح أكثر قسوة من أي تفاوت اقتصادي عرفناه، لأنه يمس جوهر التجربة البشرية نفسها.
من منظور فلسفي، التلاعب بالزمن يضعنا أمام أسئلة جوهرية حول طبيعة الحياة والوجود. هل نحن مستعدون لتسليع الزمن؟ وكيف سيؤثر ذلك على قيمنا الأساسية مثل الصبر، الانتظار، والتأمل؟ هذه القيم، التي بنيت على قبول الزمن كما هو، قد تتعرض لتآكل جذري في عالم يتم فيه إعادة تصميم الوقت ليناسب احتياجاتنا. ماذا سيحدث لعلاقاتنا الإنسانية عندما تصبح اللحظات المشتركة قابلة للتعديل أو التلاعب؟ هل ستفقد اللحظة قيمتها لأنها لم تعد تُعاش كما هي، بل أصبحت منتجًا نشتريه أو نصنعه؟
من جهة أخرى، يمكن أن تكون لهذه التطورات فوائد هائلة. إذا استُخدمت بحكمة، قد تساعد تقنيات التلاعب بالزمن في تخفيف الألم النفسي، أو تحسين جودة الحياة للأشخاص الذين يعانون من اضطرابات زمنية مثل الاكتئاب أو القلق. يمكن أن تمنح هذه التقنيات الأشخاص فرصة للعيش بطريقة أكثر إنتاجية، أو ببساطة لخلق مساحة للاستمتاع بالحياة دون الضغوط الزمنية التقليدية.
لكن السؤال الكبير الذي يظل قائماً هو: هل يمكننا حقاً التحكم في الزمن، أم أن هذا مجرد وهم؟ حتى مع كل التقدم التكنولوجي، الزمن قد يظل قوة تتجاوز قدرتنا على التحكم، يفرض شروطه علينا مهما حاولنا تغييره. هناك خطر حقيقي أن يؤدي السعي للتحكم في الوقت إلى فقداننا جوهر التجربة الإنسانية. نحن البشر نعيش في إطار من اللحظات المتلاحقة، كل لحظة تحمل في طياتها جمالها الخاص لأنها زائلة. عندما نحاول السيطرة على هذه الزوالية، قد نفقد جوهر ما يجعل الحياة فريدة.
فكرة تحويل الزمن إلى سلعة قد تبدو بعيدة المنال الآن، لكنها تجسد اتجاهاً أكبر نحو محاولة الإنسان المستمرة لترويض العالم من حوله، حتى المفاهيم التي كانت تُعتبر أبديّة وغير قابلة للتغيير ، المستقبل الذي يمكننا فيه شراء الوقت أو تعديله قد يكون مغرياً ، ولكنه يأتي بثمن: إعادة تعريف طبيعة وجودنا ككائنات تعيش في الزمن بدلاً من مجرد استهلاكه. إنها رحلة محفوفة بالمخاطر، لكنها أيضاً تفتح آفاقاً جديدة لفهم أنفسنا والعالم الذي نعيش فيه.

