الضمور يكتب: المجلس الوطني لتكنولوجيا المستقبل: فرصة التعليم العالي الأردني للريادة في اقتصاد المعرفة
أ. د. هاني الضمور
في عصر تسيطر فيه المعرفة على مفاصل الاقتصاد العالمي، وتتحكم التكنولوجيا في مسارات التنمية، يبرز التعليم العالي كقاطرة أساسية لتحقيق هذه التحولات الكبرى. الأردن، بما يمتلكه من موقع استراتيجي وإرث أكاديمي عريق، يقف اليوم على مفترق طرق؛ إما أن يستثمر في إمكاناته ليكون مركزًا إقليميًا للاقتصاد المعرفي، أو أن يظل أسير التحديات التي تواجه منظومته التعليمية. ومع التوجهات الملكية الأخيرة نحو تأسيس «المجلس الوطني لتكنولوجيا المستقبل»، بات الأفق مفتوحًا أمام الجامعات الأردنية للعب دور ريادي في صياغة اقتصاد حديث ومستدام.
تتمتع الجامعات الأردنية بتاريخ أكاديمي مميز جعلها وجهة تعليمية لآلاف الطلاب من الدول العربية والأجنبية. ومع وجود أكثر من 30 جامعة حكومية وخاصة، تقدم هذه المؤسسات برامج أكاديمية متنوعة تغطي مختلف التخصصات. ومع ذلك، فإن التحديات المتعلقة بجودة التعليم، ومواءمة مخرجاته مع متطلبات سوق العمل، وضعف البحث العلمي، تشكل عائقًا أمام تحويل التعليم العالي إلى ركيزة أساسية لاقتصاد المعرفة. تشير الإحصائيات إلى أن نسبة الإنفاق على البحث العلمي في الأردن لا تتجاوز 0.34% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة ضئيلة مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 2.2%. هذا الانخفاض في الاستثمار يعوق الجامعات عن أداء دورها المحوري في إنتاج المعرفة وتطوير الابتكار.
اقتصاد المعرفة ليس مفهومًا نظريًا فحسب، بل هو أساس اقتصادي جديد يقوم على أربعة ركائز أساسية: الابتكار، التعليم، البنية التحتية التقنية، والحوكمة. وفي حين أن الجامعات الأردنية تُظهر تقدمًا في بعض هذه المجالات، فإن هناك فجوة واضحة في التعليم التقني والتطبيقي الذي يواكب متطلبات الثورة الصناعية الرابعة. تقارير منظمة العمل الدولية تشير إلى أن الفجوة بين التعليم النظري وسوق العمل أدت إلى ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، خاصة خريجي الجامعات.
الجامعات التي تتصدر التصنيفات العالمية ليست تلك التي تُخرج أعدادًا كبيرة من الطلاب، بل تلك التي تنتج أكبر قدر من المعرفة والابتكار. في الولايات المتحدة، يمثل معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) نموذجًا يُحتذى به، حيث يساهم بشكل مباشر في تطوير الصناعات التكنولوجية، مولّدًا مليارات الدولارات سنويًا. إذا أرادت الجامعات الأردنية أن تسلك مسارًا مشابهًا، فإنها بحاجة إلى زيادة مخصصات البحث العلمي، وتأسيس مراكز حاضنة للأفكار الإبداعية، وبناء شراكات قوية مع القطاع الخاص.
التوجه الملكي بتأسيس «المجلس الوطني لتكنولوجيا المستقبل» يمثل نقطة تحول استراتيجية يمكن للجامعات الأردنية استثمارها لتعزيز دورها في بناء اقتصاد المعرفة. هذا المجلس يفتح الباب أمام الجامعات لتطوير برامج دراسات متقدمة في مجالات الذكاء الاصطناعي، إنترنت الأشياء، والطاقة المتجددة، مما يجعلها شريكًا رئيسيًا في تحقيق الأولويات الوطنية. علاوة على ذلك، يمكن لهذا المجلس أن يكون جسرًا للتعاون بين الجامعات الأردنية والمؤسسات الأكاديمية والصناعية العالمية، مما يضمن نقل المعرفة والتكنولوجيا واستثمارها محليًا.
جودة التعليم في الجامعات الأردنية تمثل الأساس الذي لا غنى عنه لبناء اقتصاد معرفي. تحتاج هذه المؤسسات إلى إعادة النظر في مناهجها لتكون أكثر انسجامًا مع متطلبات السوق المحلي والدولي. كما أن تبني أنظمة رقابة فعالة على الأداء الأكاديمي، وضمان التزام الجامعات بالمعايير العالمية، يعد أمرًا ضروريًا. التعليم التقني والتطبيقي، خاصة في مجالات التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، يمثل أحد المفاتيح الرئيسية لتطوير مخرجات تعليمية قادرة على المنافسة.
التكنولوجيا هي المحرك الأكبر للتغيير في عالم اليوم. الجامعات الأردنية بحاجة إلى تبني أحدث الأدوات الرقمية وتطوير منظومتها التعليمية لتواكب التطورات العالمية. استخدام التعلم الإلكتروني، تعزيز الذكاء الاصطناعي في التعليم، وتطوير منصات تعليمية رقمية، يمكن أن يُحدث نقلة نوعية في طريقة تقديم التعليم وتطوير مهارات الطلاب.
لا يمكن الحديث عن التعليم العالي دون الإشارة إلى ضرورة تعزيز الشراكات مع القطاع الخاص. الجامعات الأردنية بحاجة إلى بناء علاقات قوية مع الشركات المحلية والعالمية، لضمان توفير فرص تدريب عملي للطلاب، والمساهمة في تطوير أبحاث علمية تسهم في تعزيز الابتكار والنمو الاقتصادي.
ختامًا، التعليم العالي في الأردن يمتلك الإمكانات التي تؤهله ليكون قوة دافعة للتنمية الشاملة واقتصاد المعرفة. الاستفادة من التوجهات الملكية ودعم البحث العلمي والتكنولوجيا، إلى جانب تطوير جودة التعليم، هي العوامل التي ستجعل الجامعات الأردنية تقود التحول نحو مستقبل أكثر إشراقًا. إن المعرفة والابتكار هما الثروتان الحقيقيتان في القرن الحادي والعشرين، والجامعات هي المصانع التي تنتج هذه الثروات. إذا تم استثمار هذه الفرص بشكل صحيح ومدروس، فإن الأردن سيصبح نموذجًا رائدًا في المنطقة، يعكس قيمه وتراثه، ويُحقق تطلعات أجياله القادمة.

