البطوش يكتب: تجربة المشاورات النيابية
النائب الاسبق د. بسام البطوش
المبادرة الملكية لإطلاق المشاورات النيابية:
أطلق جلالة الملك قبيل انتخاب مجلس النواب السابع عشر مبادرة ملكية تمثلت في إشراك النواب في تسمية رئيس الوزراء الجديد، ومن ثم يتشاور الرئيس المكلف مع النواب في تشكيلة الحكومة وبرنامجها وخطة عملها وبيانها الوزاري. سُميت تلك العملية "المشاورات النيابية"، وقد طُرحت ابتداءً في الورقة النقاشية الملكية الثانية (16 كانون الثاني 2013) قبيل إجراء انتخابات مجلس النواب السابع عشر بأيام، وجاء فيها: " فإننا سنبادر إلى تغيير آلية اختيار رئيس الوزراء بعد الانتخابات التشريعية القادمة، وفقاً للمعايير التالية: إن رئيس الوزراء القادم، والذي ليس من الضروري أن يكون عضواً في مجلس النواب، سيتم تكليفه بالتشاور مع ائتلاف الأغلبية من الكتل النيابية. وإذا لم يبرز إئتلاف أغلبية واضح من الكتل النيابية، فإن عملية التكليف ستتم بالتشاور مع جميع الكتل النيابية.
وبدوره، سيقوم رئيس الوزراء المكلّف بالتشاور مع الكتل النيابية لتشكيل الحكومة البرلمانية الجديدة والاتفاق على برنامجها، والتي ينبغي عليها الحصول على ثقة مجلس النواب، والاستمرار بالمحافظة عليها". وعقب الانتخابات صدرت الورقة النقاشية الملكية الثالثة بتاريخ 2 آذار 2013م، وأكد جلالته فيها على "إن تعميق نهج الحكومات البرلمانية سيتدرج وفق تقدم العمل الحزبي والبرلماني وعلى عدد من الدورات البرلمانية. وسيتدرج هذا النهج بإدخال آلية للتشاور المسبق مع مجلس النواب للتوافق على تكليف رئيس للوزراء، والذي بدوره يتشاور مع مجلس النواب على تشكيل فريقه، وعلى البيان الوزاري الذي يشكل برنامج عمل الحكومة". وفي خطاب العرش في افتتاح الدورة غير العادية لمجلس الأمة السابع عشر بتاريخ 10/2/2013 . أعاد جلالته التأكيد على نهج المشاورات النيابية، وقال: "فإننا ندعو لنهج عمل جديد، وسنبدأ من نهج التشاور مع مجلس النواب والكتل النيابية فور تشكيلها، في تشكيل الحكومات من أجل الوصول إلى توافق يقود إلى تكليف رئيس للوزراء، ويبادر هو بدوره للتشاور مع الكتل النيابية، ومع القوى السياسية الأخرى حول فريقه الوزاري، ثم يتقدم للحصول على الثقة من مجلس النواب".
إذا نحن أمام تجربة مهمة في حياتنا السياسية، بدت في تلك المرحلة جديدة، وغير مؤطرة بوضوح، لكنها تجربة ضرورية، نستذكرها اليوم، بينما الرئيس المكلف د. جعفر حسّان يدخل في مشاورات مع الأحزاب السياسية الممثلة في مجلس النواب 20. وإن كان الاختلاف كبيراً بين ظروف المشاورات ومنهجيتها وغايتها في الحالتين. فالرئيس المكلف اليوم يجد أمامه واقعاً مختلفاً وأحزباً ذات كتل نيابية حزبية واضحة المعالم، تأتمر بأمر الحزب وتصدع لقراراته، خصوصاً نواب القائمة الحزبية وعددهم 41 نائباً، مما يسهل التعامل مع هذه الكتل ومرجعياتها الحزبية. في حين كانت تجربة المشاورات النيابية السابقة قد واجهت كتلاً نيابية متحركة غير ثابتة تشبه الكثبان الرملية، لا يؤطرها برنامج أو فكر ولا يحميها تشريع. وفي الحقيقة وجد النسور أمامه 150 حزباً، فكل نائب يمثل نفسه.
• خطوات ومراحل عملية المشاورات النيابية:
كان دولة الدكتور عبدالله النسور قد شكّل حكومته الأولى في 11 تشرين الأول 2012م، وتمثلت مهمتها الأساسية في إجراء الانتخابات النيابية للمجلس النيابي السابع عشر. وقد أُجريت الانتخابات في 23 كانون الثاني 2013. وقدّم دولة النسور استقالة حكومته إلى جلالة الملك في 29 كانون الثاني 2013، وكلف جلالته الحكومة بالاستمرار في القيام بمسؤولياتها لحين تشكيل حكومة جديدة.
كما صدر تكليف ملكي لدولة رئيس الديوان الملكي د. فايز الطراونة في 11 شباط 2013 بالبدء في مشاورات مع مجلس النواب كآلية جديدة لاختيار رئيس الوزراء، وانطلاق تجربة الحكومات البرلمانية في البلاد، رغم أن الدستور الأردني ينص على أن الملك هو من يعين رئيس الوزراء ويقيله.
• مشاورات رئيس الديوان الملكي مع النواب:
التقى رئيس الديوان الملكي دولة د. فايز الطراونة مع ثمان كتل نيابية تشكلت على عجل في الأيام الأولى من عمر المجلس السابع عشر، في لقاءات صباحية ومسائية منفردة، كما التقى بالنواب المستقلين في لقاء مشترك، في الفترة بين 18-25 شباط 2013م، في قصر بسمان العامر. وبحكم مشاركتي في هذه المشاورات ضمن الكتلة النيابية التي كنت عضواً فيها، ومتابعتي الحثيثة مع الزملاء النواب لما يجري، وما كان ينشر في الصحافة حينها حول مجريات العملية التشاورية، فقد حرص د. الطراونة في مفتتح كل جلسة تشاور مع النواب على نقل تحيات جلالة الملك ومباركته للنواب بثقة الشعب، وتقديم موجز عن فكرة المشاورات النيابية، ووضع أرضية للحوار، تضمنت في المجمل الأفكار الآتية:
- أراد جلالة الملك أن يشرك النواب بكل جدية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى بالصلاحيات الدستورية المخولة له لاختيار رئيس الوزراء، ومن ثم الرئيس المكلف يعود إلى مجلس النواب وكتله والقوى السياسية الأخرى كما ورد في خطاب العرش، لتشكيل الحكومة نفسها بحقائبها ومنهجيتها وسياساتها. وبالتالي فالنواب يختارون مجلس الوزراء، سواءً من بين النواب أو من غيرهم أو من التكنوقراط أو من السياسيين، فهذا الأمر يعود للنواب والقرار بالنهاية لهم.
- تحدّث جلالة الملك عن عملية تراكمية وقضية استشرافية للمستقبل. وهو ويعلم أن الأمور لا تأتي دفعة واحدة ولكن بالتدرج.
- هذا منهج جديد لا يوجد فيه أسس ولا قواعد سابقة لنعود إليها. وما يتمناه جلالة الملك أن تتطور وتترسخ هذه العملية مع مرور الوقت.
- تشكيل الكتل النيابية الصلبة يساعد في تشكيل نواة لأحزاب خارج القبة لتعزز الوضع الحزبي.
- حرص جلالة الملك على هذه العملية التشاورية، وأنه سيتم نقل الصورة الكاملة والواضحة لجلالة الملك بكل شفافية ومصداقية وأمانة، ولذلك سيتم تسجيل الوقائع، وسيتم تزويد كل كتلة بمحضر الجلسة.
- أكد رئيس الديوان أنه وفريقه ليسوا في معرض الدفع باتجاه تسمية أحد بعينه، وأنه (لا يقنّي لأحد). وأنهم سينقلون آراء النواب حرفياً لجلالة الملك.
• مواقف النواب وآرائهم أثناء المشاورات مع رئيس الديوان الملكي:
تباينت آراء النواب ومواقفهم من الفكرة وآلية تطبيقها، وفي الجلسات التي أجراها رئيس الديوان الملكي مع النواب ظهرت هذه المواقف والآراء بوضوح، ويمكن تلخيصها فيما يأتي:
- حبّذ نواب أن يختار جلالة الملك رئيس الوزراء من البرلمان، دون أن يسمي النواب رئيساً محدداً.
- رغب نواب بحصر إختيار الرئيس والوزراء في النواب، اقتناعاً منهم بأن الحكومة يجب أن تكون نيابية بكليتها، ولا يفضلونها برلمانية.
- فتح نواب الأبواب لتسمية الرئيس من خارج المجلس.
- طالب نواب بضرورة وجود وزراء من المجلس، وإشراك تكنوقراط في الحكومة.
- طالب نواب أن تكون الحكومة نصف برلمانية لتعيد الهيبة للوزارة.
- امتنع عدد كبير من النواب عن ترشيح أسماء محددة، وتركوا الأمر لجلالة الملك فهو أدرى برجالات الوطن والمرحلة.
- دخل عدد من النواب في الحديث عن مواصفات الرئيس القادم، وبعضهم طرح أسماء أيضاً.
- عارض نفر من النواب التجديد للرئيس النسور.
- طالب نواب بتكليف وجه جديد لتشكيل الحكومة الجديدة من خارج الأسماء المتداولة والمعهودة والمألوفة.
- غاب التوافق عن مواقف وآراء النواب داخل الكتل النيابية الواحدة، فلم تكن مجمعة على أمر محدد.
- من الأسماء التي طرحت كخيار لدى مجموعة من النواب معالي الدكتور عوض خليفات، وزير الداخلية في حكومة النسور الأولى.
الذي تقبل نتيجة المشاورات النيابية، وقد صرّح خليفات للإعلام بتاريخ 11/3/2013، قائلاً: " نحن نحترم قرار جلالة الملك باعادة تكليف النسور كرئيس حكومه وهذه صلاحية جلالة سيدنا ونحن نحترمها ونقدّرها ونعتز بها سواء التكليف لدولة أبو زهير أو غيره. ودولة النسور شخص له قدره وهو صديق وأخ وعلاقتي به خير وممتده منذ ربع قرن. وأنا سعيد بإعادة تكليفه ونحن جميعنا تحت الاراده الملكيه وتحت إرادة جلالة الملك في كل الاحوال والظروف".
• نتيجة المشاورات النيابية مع رئيس الديوان الملكي:
أعلنت كتل نيابية عدّة ترشيحها لدولة د. عبد الله النسور لتشكيل الحكومة الجديدة. وشكلت إئتلافاً نيابياً يدعم تكليف الرئيس النسور ووقع نحو 84 نائباً عريضة أودعوها لدى الأمانة العامة لمجلس النواب تتضمن هذا الترشيح. فقد دعمت كتل وطن، والوسط الإسلامي، والوفاق الوطني، والاتحاد الوطني ترشيح النسور، كما دعم ترشيحه عدد من النواب المستقلين والعابرين للكتل النيابية.
ورفع دولة رئيس الديوان الملكي فايز الطراونة تقريراً لجلالة الملك حول نتيجة المشاورات النيابية صباح يوم السبت 8/3/2013. وصدرت الإرادة الملكية بتكليف الدكتور النسور بإعادة تشكيل الحكومة يوم الأحد 9/3/2013. وقال بيان صادر عن الديوان الملكي إن جلالة الملك كلف دولة النسور بتشكيل الحكومة الجديدة استناداً إلى تقرير المشاورات النيابية التي أجراها رئيس الديوان الملكي فايز الطراونة مع الكتل النيابية الثمان وأعضاء المجلس المستقلين.
• مشاورات الرئيس المكلف مع النواب:
دخل الرئيس النسور بعد إعادة تكليفه بتشكيل الحكومة ماراثوناً شاقاً في التشاور مع النواب، على برنامج الحكومة وتشكيلتها، وفي الحقيقة كانت المعضلة في التشكيلة أكثر من البرنامج، فالنواب ليس لديهم برنامج مشترك واضح المعالم، كما ليس لديهم رؤية مشتركة لطبيعة المرحلة وتحدياتها. وبدأ الرئيس المكلّف بتاريخ 11 /3/ 2013 مشاوراته مع رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الأعيان، وفي اليوم التالي 12/3/ 2013 بدأ النسور الاجتماع بالكتل النيابية. وقد كنت بحكم عضويتي في المجلس شاهداً على جزء منها، ومتابعاً بدقة لما جرى في معظم اجتماعات الرئيس، الذي وجد الساحة النيابية في حالة إنقسام وتشتت كبيرة، وأبرز ما واجهه:
- برزت مجموعة نيابية عابرة للكتل والمستقلين مؤيدة لحكومة النسور.
- ظهرت مجموعة نيابية عابرة للكتل والمستقلين معارضة لحكومة النسور، وتتوعد بحجب الثقة عنها.
- وجود كتل نيابية هلامية ليس لديها برنامج سياسي أو اقتصادي – اجتماعي يمثلها، وغير متفقة على مشاركة النواب أو عدم مشاركتهم في الحكومة من حيث المبدأ.
- شعور رموز نيابية بالاحباط نظراً لعدم تكليف نائب بتشكيل الحكومة.
- تطلع عدد كبير من النواب للحصول على حقيبة وزارية.
- صراع النواب داخل الكتلة الواحدة حول من سيتولى الحقيبة الوزارية تمثيلاً للكتلة.
- خلاصة أي اجتماع للرئيس المكلف مع النواب هي عدم وجود خطاب موحد أو متناغم داخل الكتلة الواحدة.
- انهالت القوائم المرشحة للتوزير على رئيس الحكومة المكلف من السادة النواب، وكانت خليطاً واسعاً من الأسماء والتوجهات والخبرات.
• نتيجة العملية التشاورية وإعلان تشكيل حكومة النسور الثانية:
في ظل هذه الحالة عمد الرئيس المكلف (النسور) إلى إعلان تشكيلته الوزارية المقلّصة يوم 30/3/2013 فاتحاً الباب لمزيد من المشاورات مع النواب مستقبلاً للوصول إلى التشكيلة النهائية للحكومة بإستكمال شقها البرلماني عبر تعديل وزاري قريب، وهذه الاستراتيجية ساعدت الحكومة في نيل ثقة مريحة داخل المجلس تطلعاً من النواب إلى المستقبل. فقد نالت حكومة النسور ثقة 82 نائباً يوم 23/4/2013، وحجب 66 نائباً الثقة عن الحكومة، في حين غاب نائب واحد عن الجلسة، ولم يدل رئيس المجلس بصوته.
وكشفت عملية التصويت على الثقة «هلامية» الكتل النيابية بشكل واضح والانقسامات الجوهرية داخلها، حيث لم تجمع أي كتلة على قرار موحد بخصوص المنح أو الحجب. ولم يكن السلوك التصويتي للنواب في جلسة الثقة منسجماً مع مواقفهم المعلنة من إعادة تكليف دولة النسور قبل أيام. فلطالما منح الثقة للحكومة من عارض إعادة تكليف النسور، ولربما حجب الثقة عنها من خابت آماله في توزير النواب. وفي رده على مناقشات النواب للبيان الوزاري للحكومة في جلسة الثقة أوضح النسور موقفه، وما جرى، والعقبات التي اعترضته في عملية التشاور مع النواب، مؤكداً المضي في طريق الحكومة البرلمانية " إنني، وبالشراكة مع مجلسكم الموقر، أنظرُ لهدف إحقاق الحكومة البرلمانية وإنجاحه على أنَّه رسالةُ حكم من قبل جلالة الملك لا رسالة حكومة فلا تراجع عن ذلك... وسأباشرُ، إن تشرفت بنيل ثقة مجلسكم الكريم، إلى السير بخطوات ملموسة لاستكمال الحكومة بشقّها البرلماني وبما يضمن توافقاً مع مجلسكم الكريم خلال الأيام أو الأسابيع القادمة حسب ما تقتضيه العودة إلى الكتل والمستقلين".
ومضت حكومة النسور في إجراء عدد من التعديلات الحكومية بعيداً عن التشاور مع النواب، ووجدت الأغلبية النيابية التي رشحت الرئيس النسور نفسها بين خيارين إما التوافق مع الحكومة برنامجاً وتشكيلة وهي لم تشارك في صياغتهما، أو معارضتها وهي من رشحت دولة النسور إبتداءً! كما وجدت الحكومة جبهة نيابية عريضة تعارضها من حيث المبدأ تبلورت منذ انطلاق المشاورات في مرحلتها الأولى، وقد نجحت الحكومة في اختراق هذه الجبهة أحياناً، لكنها عانت معها كثيراً حتى النهاية. كما وجدت الحكومة نفسها مدينة لمن رشّحها إبتداءً ويرغب في حظوة لديها في القرارات والتعيينات والمصالح!
بلا شك ستضاف تجربة المشاورات النيابية 2013 لموروثنا السياسي، وقد عبرت عن رؤية ملكية مبكرة ومتفائلة لم تجد الظرف المواتي ولا حسن التنفيذ لإنجاحها، لكنها شكّلت خبرة ورصيداً، وجرى الإفادة منها، وأثبتت ضرورة الربط بين قانوني الانتخاب والأحزاب، وكانت حاضرة في الذهن في صياغة منتجات عملية تحديث المنظومة السياسية، وبلا شك فإن تجربتنا الانتخابية الأخيرة للمجلس 20 ستضيف خبرات مهمة سنتعلم منها مستقبلاً.
• أكاديمي ونائب سابق.