البراري يكتب: هل تعاني المنطقة من انكشاف استراتيجي؟
هزاع البراري ( أمين عام وزارة الثقافة الأسبق)
المتابع لتاريخ منطقة الشرق الأوسط منذ أفول حقبة الاستعمار المباشر، وإعلان قيام دولة إسرائيل، وتصاعد الحس القومي العربي، بالتوازي مع توالي الانقلابات العسكرية في سوريا ومصر والعراق وليبيا والسودان وغيرها، وبروز جبهة متماسكة إلى حد ما في مواجهة الكيان الإسرائيلي، فكانت جبهة دول الطوق أو المواجهة، وصعود دور الجامعة العربية ومؤتمرات القمة في ذروة حضورها ولاءاتها الشهيرة، وبالتالي تشكل واقع عربي مناهض، يتكئ على استراتيجية اللاءات الثلاثة – التي كانت تظهر بمثابة الموقف الاستراتيجي حينها – وبدا أن المنطقة تسير بإيقاع واحد ولو من حيث الإعلان الرسمي.
وقد جاءت الثورة الإيرانية في نهاية عقد سبعينات القرن الماضي، وكأنها منساقة مع هذا الإيقاع العام، في حتمية المواجهة والتحرير، وبدا أن الحرب والحالة هذه خيارا استراتيجيا يفضي إلى التحرير أو إلى تسوية عادلة على أساس القرارات الدولية.
من جانبها تقوم ” إسرائيل ” على عقيدة عسكرية صرفة، قوامها تأكيد التفوق العسكري، وأن تبقى موازين القوى لصالحها في مواجهة العرب فرادى أو مجتمعين، بما في ذلك الصدام مع إيران البعيدة، التي بدأت بتكوين أذرع على شكل أحلاف بالقرب من حدود إسرائيل، وتوضح ذلك مع الحرب في لبنان واجتياح لبنان ومحاصرة بيروت في 1982 وما تلاها من أحداث.
إن استراتيجية التفوق العسكري الإسرائيلي تجلت في أكثر من صورة، سواء على مستوى التسليح عالي المستوى، وبأحدث التقنيات المتوفرة، التدريب المواكب لكل ما هو جديد ومتميز، إدامة الدعم الغربي والمحافظة على زخم هذا الدعم عسكريا واقتصاديا، وترافق ذلك مع الحيلولة دون تسليح العرب بالشكل الذي يحقق التوازن أو التفوق للعرب، بالتالي تتغيير معادلة الردع فتصبح إسرائيل في خطر وجودي، ومنع العرب وإيران من بناء قوة نووية، وقد استخدمت القوة العسكرية غير مرة في سبيل ذلك وحققت أهدافها إلى حد بعيد.
لم تكن إيران بعيدة رغم المسافة عن ما يجري، فقد سعت لتأكيد وجودها وفعاليتها لأسباب استراتيجية خاصة بها تخدم مصالحها تحقق مصالحها الذاتية في توسع مناطق نفوها وما سمي سابقا بتصدير الثورة، إلى تصدير الفكر والنفوذ العسكري والعقائدي، وقد تقاطعت بعض مسارات هذه الاستراتيجية مع مصالح أحلافها الداخلية، وهي مصالح تقع في إطار التكتيك السياسي والعسكري، ولا أرى أن هذا التقاطع مؤهل للصمود طويلا كونه يبقى تكتيكا عند أحد الأطرف على الأقل، ففي حال تبدلت الأحوال، وتغيرت المصالح، ودخلت إيران في مرحلة تتطلب إحداث تحول ما في خططها ومصالحها الداخلية والإقليمية وإحداث استدارة كبيرة ستسقط هذه السياسة.
لقد أفرز انهيار الاتحاد السوفيتي ما يسمى القطب الواحد، وكأن العالم أصبح يقف على رجل واحدة، وهذا وضع غير مريح ولا ينتج استقرارا، فكانت حروب الخليج المتعاقبة وسقوط النظام في العراق، وغياب التوزان الحقيقي في المنطقة، أن تأكد لدى الأطراف وخاصة العربية، أن السلام هو الخيار الاستراتيجي، وأن المفاوضات المباشرة هي الطريق الأسلم والأكثر نجاعة، في ظل التحولات العالمية والإقليمية، فجاءت مدريد المتمتعة بالرعاية الأمريكية/ العالمية، وما نتج عنها من اتفاقيات متلاحقة.
لقد بدأت تتغير إسرائيل من الداخل منذ مقتل ” رابين ” وأخذت قوى اليمين المتطرف تقود الحكومات حتى صارت صاحبة اليد الطولى، وهنا ظهر للعيان أن إسرائيل ترى بأن هذا السلام يشكل خطرا وجوديا عليها على المدى المتوسط والبعيد، وتوضح أن خيار حل الدولتين لم يعد مقبولا، فتوسعت في بناء المستوطنات في الضفة واعادة اجتياح الضفة عسكريا بحجة قمع الانتفاضة الثانية، وقضت عمليا على أهم ركائز أوسلو.
وتبع ذلك دوخل العرب في دوامة ما سمي ب ” الربيع العربي ” الذي أمعن في إضعاف المنطقة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وبالتأكيد عسكريا، حيث غرقت المنقطة في دوامة صراعات مدمرة، أصابت التمنية المتعثرة أصلا بما يشبه الإنهيار، واستشراء حالة اللأمن، مما أصاب اقتصاديات المنطقة بضربات قاسمة، في وقت حضيت إسرائيل بنسبة كبيرة من الاستقرار والنمو الاقتصادي، وبرز دورها وأهميتها بالنسبة للعالم الغربي بشكل أكبر، خاصة في سبيل مواجهة التطرف والإرهاب وقوى الظلام، خاصة بعد أن أسهمت إسرائيل بتسوق المنطقة باعتبارها مَصدر ومُصدر لهذا الشر إلى العالم الغربي.
في هذه الظروف وقبلها عمل حزب الله حليف إيران على تسويق صورته باعتباره تشكيلا مقاوما رغم بنيته الطائفية، وتمددت إيران من خلال تشكيلات أخرى في العراق وسوريا واليمن، بالإضافة لموقفها الداعم لحماس، وكان للظروف التي أوجدها الربيع العربي أن أتاحت لإيران مزيد من هذا التمدد، سواء بالتحالف أو توفير الدعم العسكري أو المالي بما يتفق مع مصالحها وسياساتها في المنطقة.
في حين واصلت مسيرة التسوية السلمية انهيارها، خاصة مع تفاقم الانقسام الفلسطيني، مع الإشارة أن ما يجري الآن في غزة لم تتضح نتائجه ولم تظهر مآلاته التي أتمنى أن تسهم في تحسين هذه الحالة من النكوص المقلق.
إن فقدان البوصلة في المنطقة وحالات الانقسام والضعف العام، وممارسات إسرائيل على الأرض والأوضاع المتردية، ما بعد الربيع العربي قد أسقطت الحرب كخيار استراتيجي للتحرير وصناعة السلام – واتحدث هنا عن الدول – كما أن إسرائيل أسقطت العملية السلمية، وأعادت المنطقة إلى ما قبل أوسلو، وجاهرت برفضها حل الدولتين، ولم تعد التسوية بهذا الشكل خيارا استراتيجيا لإسرائيل، أضف إلى ذلك تراجع واضح في موازين الردع بين حزب الله وإسرائيل لصالح الأخيرة في الفترة الحالي.
كما كشف الرد الخجول لإيران على إسرائيل بعد قصف القنصلية في دمشق، والتردد الإيراني في رده على اغتيال إسرائيل لاسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحماس، ومحاولة الاستعاضة عنه بالمساهمة في مفاوضات التهدئة ووقف الحرب في غزة، تشير إلى أن الاسترتيجية الإيرانية في الردع من خلال رد الفعل بفعل موزاي له بالمقدار أو قريب من موازاته لم يعد فعلا استراتيجيا، بل تحول إلى مناورات تكتيكية تجميلية، وليس أدل على ذلك من ردها بعد مقتل قاسم سليماني قائد فيلق القدس.
كل ذلك قد يشير إلى أن المنطقة برمتها لم تعد تملك خيارات استراتيجية واضحة المعالم، ومنهجيات حقيقة ومؤثرة، بل أصبح الفعل ورد الفعل دون شرط موزاته بالحجم والقوة، هو الفعل الأكثر وضوحا، وأخذت عوامل الردع تخف حتى أنها تتحول أحيانا إلى خطب حماسية، ومنشيتات إعلامية، وإن جاء الرد لا يكون رادعا، مما يجعل السؤال إلى أي أفق تتجه المنطقة في ظل هذا الأوضاع هو السؤال الأشد إلحاحا.