الإعلام.. أزمة المحلي وغياب شبكة الحماية الخارجية
راكان السعايدة
مرة أخرى، تتبع مرات سابقة، تناولنا فيها واقع الإعلام في الأردن ومعاناته، وإلى أي حد تلتفت الدولة إلى أهميته وقيمته بوصفه أحد أهم، إن لم يكن أهم، أدوات الدولة السياسية وقوتها الناعمة.
وكما في كل مرة، نلحظ أن الدولة غير معنية بإعلامها، أكان رسميًا أم مستقلًا أم شبه مستقل، لا تراه مهمًّا أو فاعلًا رئيسًا، ولا تراه ضرورة أمام وفرة مواقع التواصل الاجتماعي.
هذه النظرة أخرجت الإعلام من دائرة التأثير وحولت مؤسساته إلى كيانات هامشية طرفية، وأبقت وجودها شكليًا، فلا هو يؤثر في الداخل ولا هو بقادر على الاشتباك مع الخارج.
فحلّت فوضى مواقع التواصل الاجتماعي التي لا تعمل وفقًا لأسس ومعايير مهنية وأخلاقية، وهو ما تشكو منه الدولة اليوم، ولا تملك قدرة على ضبطه وتفعيل أي قيم وأدبيات تحكم عمله، إلاَ بالتجريم القانوني، وهذا ليس حلًا أبدًا.
الأردن بخلاف دول العالم، تلك الدول تدرك أهمية الإعلام والحاجة إلى أن يكون قويًا وفاعلًا مؤثرًا، وتدرك قيمة بناء شبكة حماية إعلامية خارجية تبنيها بالتشبيك مع إعلام الخارج.
ولأن هذه الدول تعي كل ذلك، فهي تعتمد أمرين أساسيين:
أولًا: الإنفاق المالي على الإعلام، بوصفه قوتها الناعمة، لتمكينه من الانتشار الواسع من خلال توظيف كل أداة إعلامية حديثة، وتطوير مهارات العاملين فيه ورفع سويتهم.
ثانيًا: منحه هوامش النقد، والمواءمة بين الرأي والرأي الآخر، كي يصلَ كل الجمهور، وينظر إليه هذا الجمهور أنه إعلامه الذي ينقل رسائله ومواقفه وهمومه وطموحاته إلى صاحب القرار.
هذان الأمران، أو الشرطان، لرفع شأن إعلام الدولة غير متوفران بالشكل الكافي، ولذلك يقبع إعلامنا على هامش الأشياء، تاركا لمواقع التواصل الاجتماعي تشكيل الوعي العام الجمعي.
ما المطلوب..؟
أولًا: أن تقتنع مؤسسات الدولة الرسمية بأهمية الإعلام ودوره، وأن تلاحظ كيف تهتم الدول بإعلامها وتقوّيه وتمكّنه. وما لم تتشكل هذه القناعة فلا جدوى من الحديث في الأمر، لأن القناعة تؤسس لإرادة الدعم والتمكين، وهذا أول الإدراك وأساس الاستدراك.
ثانيًا: التعامل مع مؤسسات الإعلام، كلها وبلا استثناء، بوصفها قوة ناعمة للدولة، لا تنتظر منها أرباحًا ولا عوائد، فهي ليست مصانع أو مزارع، هي أدوات سياسية لا بد أن تنفق عليها الدولة.
ثالثًا: تولية قيادات إعلامية وازنة مقاليد إدارة المؤسسات الإعلامية ممن تملك مهارات تزاوج بين الإعلام التقليدي والحديث، وعلى قدرٍ عالٍ من المهنية والحرفية، والثقافة والعمق السياسي وفهم ثوابت الدولة ومبادئها ومصالحها الداخلية والخارجية وطبيعة التحديات والتوازنات كي تصمم محتوى ذكيًا إبداعيًا يصل الجميع ويؤثر فيهم.
رابعًا: توسيع هوامش ومساحات الرأي والرأي الآخر، والنقد والتعبير، ليجد الجميع أنفسهم في هذا الإعلام، ولا يحتاجوا إلى بدائل غير منضبطة بقيم مهنية وأخلاقية، وأحيانًا محمولة على أجندة غير وطنية، وبخاصة ما يأتي من الخارج.
تلك بعض المطلوبات، أو أساسيات، لإحداث نقلة نوعية في الإعلام، وكما قلنا وأكدنا أن الأساس في ذلك إدراك أهمية الإعلام ودوره، ومن ثم الاقتناع بأهمية تغيير الواقع الراهن.
هل هذا المطلوب فقط..؟
لا، ليس هذا فقط المطلوب، فلكي تكتمل دائرة الفعل والتأثير لا بد من خطة تشبيك مع الإعلام الخارجي وبناء صلات وعلاقات قوية معه، مؤسسات وصحفيين وإعلاميين.
فبناء صلات وعلاقات مع إعلام الخارج، بذكاء ووعي وحنكة، من شأنه أن يبني شبكة حماية إعلامية واسعة تتحرك من تلقاء نفسها لتقف إلى جانب الدولة في مفاصل الأزمات والتحديات، محلية وإقليمية ودولية.
إن بناء شبكة الحماية هذه مسألة ممكنة، وليست مهمة مستحيلة، ولكنها تحتاج إلى جهد منظم منسق ومؤسسي منهجي، تشترك فيه وزارة الخارجية وسفاراتها ووزارة الاتصال الحكومي، وبغطاء ودعم بقية المؤسسات السيادية.
ويمكن التأسيس لهذه الشبكة، شبكة الحماية الإعلامية الخارجية، بالتالي:
أولًا: تكليف سفارات الدولة بالخارج بوضع قوائم بأهم المؤسسات الإعلامية، وأهم الناشرين وأهم القيادات الإعلامية من رؤساء تحرير وصحفيين وكتاب، ورفع هذه القوائم إلى وزارة الاتصال.
ثانيًا: ضمن تقسيم مدروس يتم سنويًا أو نصف سنوي- في البداية على الأقل- دعوة مجموعة متنوعة من هؤلاء لزيارة الأردن، أكان عبر مؤتمرات إعلامية أو زيارات سياحية لمدة أيضًا تكون مدروسة ومخطط لها بشكل جيد.
ثالثًا: ترتيب لقاءات مجاملة رسمية لهذه المجموعات، ولقاءات مع شخصيات رسمية منتقاة بعناية شديدة للحديث عن الأردن وواقعه وظروفه والتحديات التي يواجهها، ومن المهم ألا تكون الاستضافة كلها رسميات.
رابعًا: بعد مغادرة هذه المجموعات تكلف السفارات بالتواصل الدائم معهم، ومجاملتهم في مناسباتهم والالتقاء بهم في السياق الاجتماعي لإدامة الصلات التي بنيت وتعظيمها.
خامسًا: تنسق الدعوات بحيث يجري تكرار زيارة بعض أفراد هذه المجموعات أكثر من مرة، وفقًا لتقييمات مدروسة.
الأكيد أنه بعد عدة سنوات ستجد الدولة أنها أسست شبكة قوية من العلاقات المتينة مع الإعلام الخارجي وقياداته والفاعلين فيه، وستجد أن لدى هؤلاء امتنان للدولة يكفي ليكونوا إلى جانبها ويقفوا معها ويدعموها ويدافعوا عنها في المفاصل الحساسة والتحديات الصعبة.
كل ما ذكرناه أعلاه، ليس له أن يتحقق بدون الالتفات إلى إعلامنا المحلي وواقع علاقاتنا مع الإعلام الخارجي، وأول التأسيس لمرحلة جديدة من التعاطي مع قضية الإعلام تكون بالتقاط أهميته وقيمته، وهي أهمية وقيمة لا يلتقطها إلاّ رجال دولة وليس موظفون تحكمهم مصالحهم وقصر نظرهم.