فلسطين... قطار الدولة بين المحطة الأولى والأخيرة
كتب نبيل عمرو
كل الشعوب التي ابتليت باحتلال أجنبي، حصلت على استقلالها بفعل كفاحها الوطني المنطلق أصلاً من أرضها وشعبها، بحيث لم يستطع المحتل مواصلة احتلاله إثر موازنة حسابية تُرجح فيها كفة الخسارة على الربح.
كان هذا ولا يزال قانوناً ثابتاً في العلاقة بين الشعوب ومحتليها، ولم يحدث أن اختُلف عليه في كل الأماكن والأزمان.
بهذا المقياس ينبغي أن تقوّم رحلة الفلسطينيين الشاقة والطويلة للتخلص من الاحتلال، والحصول على الحرية والاستقلال.
بحساب النسبة والتناسب، قدّم الفلسطينيون - ومعهم العرب - أعلى تضحيات قدّمها شعبٌ في القرنين العشرين والحادي والعشرين، وكل من واكب تطورات الكفاح الوطني الفلسطيني ليس بحاجة لأن نسرد له حجم التضحيات بالأرقام... مثل كم روح بشرية أزهقت وكم عائلة شردت وكم إنسان اعتقل وكم آدمي جرح حد الإعاقة. ما يجري في غزة الآن، هو النموذج الأكثر وضوحاً عن كيف كانت التضحيات وما حجمها.
الدولة الفلسطينية التي هي الحلم الجامع للفلسطينيين - ومن معهم من العرب والعالم - توقف قطارها على محطة انطلاقته الأولى التي هي أرض الوطن، وهذه المحطة كثيرة التضحيات والخسارات ينبغي أن ينظر إليها بموضوعية وتجرد لنقرأ الحقائق كما هي بالضبط، ولنضع أيدينا على المعيقات التي تحول دون انطلاق القطار كما ينبغي.
أرض الوطن والفلسطينيون المقيمون عليها ونصفهم الآخر المقيم على أراضي الشتات، يفتقرون لأبسط وأهم شروط الفاعلية وهي الوحدة الوطنية، التي توفر الأرض الراسخة لكفاح وطني يسنده إجماع على برنامج واحد وتبلوره مؤسسة واحدة وتؤدي مهامه قيادة واحدة.
هذا هو الخلل الفادح الذي يعتري محطة الانطلاق الأولى، وما دام لم يعالج حتى الآن على النحو الذي يوفر وحدة القوى وانسجامها وتكامل أدائها، فلا فرص جدية لبلوغ المحطة الأخيرة التي هي أيضاً ذات إشكاليات معقدة بحكم النفوذ المؤثر لحامل المفتاح.
قبل حرب غزة كانت الأمم المتحدة ولا تزال هي المكان المجسد لما نحب تسميته المجتمع الدولي، وبالأخص جمعيتها العامة، التي هي المكان الأكثر عدالة في التعاطي مع القضية الفلسطينية، والحقوق السياسية الثابتة لشعبها، فهي صاحبة القرارات التاريخية بتأييد حقه في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة على جميع الأراضي التي احتلت في عام 1967، بما في ذلك القدس الشرقية.
كما هي المكان الذي أصدر قرارات بالغة الأهمية بشأن قضية اللاجئين، حتى إن أميركا بقضها وقضيضها عُزلت داخلها، أمّا مدللتها إسرائيل، وفي كل تصويت جرى، بدت منبوذة معزولة خاسرة.
ظاهرة الأمم المتحدة تنطوي على حالة شاذة وغير منطقية جسدتها بنيتها وقوانينها، إذ لا أهمية للأغلبية حتى لو كانت كاسحة، لأن الجسم الأصغر «مجلس الأمن» هو من يتحكم بكل مخرجاتها من خلال حق «الفيتو»، وفي القرنين العشرين والحادي والعشرين بدا كما لو أنه وضع في صلب قوانين الأمم المتحدة كي تستخدمه أميركا ضد الفلسطينيين وضد كل مشروع قرار يخدش المروق الإسرائيلي ويقدّم بعض شيء إيجابي للفلسطينيين.
الدلالات الأكثر بلاغة ودقة في تصوير حال قطار الدولة الفلسطينية من محطته الأولى إلى محطته الأخيرة، أن العالم كله يقف في مكان كأغلبية شعبية وإنسانية ودولية، وأميركا وإسرائيل تقفان في المكان المقابل، ولكن على كومة من حطام غزة وجثامين شهدائها.
لن يقلع القطار من محطته الأولى إذا لم يتم وعلى نحو عاجل ومتقن، إصلاح خللها غير المنطقي أصلاً الذي يجسده استمرار الانقسام والشرذمة، وتبديد الطاقات في صراع داخلي، وهذا أمر بيد الفلسطينيين وحدهم، أمّا المحطة الأخيرة التي لا يزال بابها الفولاذي مغلقاً بإحكام من قبل حامل المفتاح، فأمرها بيد من سيرغمون أميركا وإسرائيل على رؤية الحقائق كما هي، بحيث ترجح كفة الربح من فتح الباب أمام الدولة الفلسطينية كي تأخذ بطاقة الدخول إلى الأمم المتحدة كعضو كامل العضوية مع اقتران ذلك بقيامها على أرضها.
لقد قدّم الشعب الفلسطيني والشعوب العربية تضحيات تكفي وتزيد على الحاجة لتحرير عدة كيانات وشعوب، وهذا يرتب على من يتولون القيادة الشرعية الدستورية أو بشرعية الأمر الواقع أن يسارعوا إلى إيجاد حل يزيل معيقات المحطة الأولى، كي يسهل انطلاق القطار لعبور المحطة الأخيرة.
الرياح كلها تسير في مصلحة الدولة الفلسطينية، ولكن خلل المحطة الأولى يقوض الكثير، ولعل ما يحدث على أرض غزة والضفة وما حدث في الجمعية العامة للأمم المتحدة أخيراً، يكون حافزاً كافياً لتدارك خلل المحطة الأولى وإنهائه.