الوقت الذي يراهن عليه الجميع بخسارات يومية

{title}
أخبار الأردن -

مالك العثامنة
 
نوفمبر من العام الماضي غادر هنري كسينجر الحياة بعد مائة عام عاشها رمزا للمراوغة السياسية.
أتذكره اليوم وأنا أراقب عملية تثبيت "الوضع الراهن" لكسب الوقت في كل ملابسات وتفاصيل الحرب التي تدور الآن في غزة وتمتد تداعياتها "العسكرية والسياسية" في الإقليم.


كان كيسنجر أكاديميا يوظف التاريخ لخلق أدواته السياسية، وكانت إستراتيجيته في الشرق الأوسط مختلفة عن إستراتيجيته في التعامل مع الصين أو الاتحاد السوفييتي.
في الشرق الأوسط كان كيسنجر يعتمد مسألة شراء الوقت بدلا من تحقيق السلام فعليا، الوقت يخدم مصالح إسرائيل دوما في بناء قدراتها ويعطيها مرونة في تغيير الوقائع على الأرض لتترّسخ كوضع دائم، وهذا الوقت "المطاطي" نفسه في الجانب العربي يولد التعب من الصراع مما يخلق فرصة لقبول الوضع الراهن دوما على أنه الحل الدائم، وهو ما أثبت نجاحه فعلا في تدوير "الحالات الثورية" وتحويلها مع الوقت إلى قوى تحافظ وتتمسك بالوضع الراهن (منظمة التحرير الفلسطينية مثالا!).
كان كيسنجر سيد المراوغة التي زرعها كخلية نشطة في عقل السياسة الأميركية، ومن مراوغاته الشهيرة أنه كان دوما يؤكد على أن العدالة يجب أن تتحقق للفلسطينيين، ثم يضيف "..لكن لا بأس لو تأخرت العدالة قليلا".
لقد أصبح الوقت لعنة الشرق الأوسط، ولعبة السياسة المفضلة لصالح إسرائيل، وقد قام الصديق الدكتور عامر السبايلة بتأطير الفكرة عبر مفهوم استثمار عامل الوقت في صيغة التقادم لفرض سياسة الأمر الواقع والتعايش مع مخرجاته.
وفحوى المفهوم أنه كلما مر الوقت كلما أصبحت الحلول العملية البراغماتية تتغلب على الحلول الجذرية الحقيقية للأزمة، وحينها يصبح الحل البديل والوحيد يكمن في إيجاد طريقة للتعاطي مع الوضع الراهن لا مع جذور المشكلة نفسها.
وفعليا، هذا ما حدث في كل مجمل العملية السلمية من بداياتها حتى "الوضع الراهن" الذي نعيشه اليوم ويتم اجتراح الحلول للتعاطي معه كحالة واقعية قابلة للاستدامة.
ما تزال نظريات كيسنجر محركا أساسيا لا للسياسة الأميركية وحسب، بل مقبولة في الجانب الإسرائيلي بشراء الوقت واستنفاذه، وأن السلام لن يتحقق إلا عندما يستنفذ العالم العربي كل البدائل – وهذا يحتاج وقتا طويلا- لكي يعتاد على وجود إسرائيل كثابت شرق أوسطي، وهو ما لن يكون بدون عملية تدريجية بطيئة مليئة بالعثرات الكبيرة في عملية السلام.
لكن، الخطورة الكامنة في هذا المنطق أن المعطيات في العالم الذي عاشه كيسنجر، مختلفة جوهريا عن عالم اليوم، واللعب بالوقت لغايات إطالته واستدامة الوضع الراهن قد تكون خطرا حقيقيا لا على المنطقة وحسب، بل على السلام العالمي كله.
إن الوقت الذي يتم هدره اليوم غير قابل للاستثمار كما في كل مرة سابقة، مدفوع الثمن بدماء أعداد كبيرة من البشر على صيغة إبادة جماعية، سينجو منها من ينجو ليتحول إلى كتل بشرية ثأرية قادرة على الانتشار في العالم.
والعالم العربي اليوم، لم تعد شعوبه خاضعة للبيان رقم واحد في إذاعاتها الموجهة، والحقائق لا تحتاج عالما معقدا من الجاسوسية لكشفها، فهي واضحة وأمام الجميع..مما يجعل الوضع الراهن نفسه تحت وطأة الوقت الثقيل والاستحقاقات المرتقبة.

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير